بينما يتنقل محمود العش، موظف في الأربعين من عمره، جولته اليومية بين معارض السيارات، لا يبحث عن رفاهية أو موديل فاخر، بل عن سيارة مصرية بسعر معقول، يتساءل: “يعني إزاي عربية معمولة هنا ومش لاقيها؟” يقولها بنبرة استياء، قبل أن يضيف: “ولما لاقيتها، السعر طالع فوق العشرين ألف زيادة عن المعلن.. طب ما كنت جبتها مستوردة؟”
في ظاهر المشهد، يبدو أن مصر بدأت تضع قدمها بثقة في صناعة السيارات؛ أكثر من 20 طرازًا من سيارات الركوب تُجمع محليًا اليوم، ونحو عشرات الموديلات الجديدة في الطريق بل بعضها سيُطرح خلال شهور قليلة.
فجوة زمنية: سرعة التوسع وبطء التوريد
لكن عند النزول إلى السوق، تختفي هذه الصورة فجأة؛ سيارات أُعلن عنها رسميًا لا تجدها في المعارض، أو تجدها بسعر يزيد عشرات الآلاف عن السعر المعلن كما قال محمود.. فماذا يحدث؟
الإجابة تكمن في فجوة زمنية حرجة بين سرعة التوسع وبطء التوريد، صحيح أن خطوط الإنتاج تعمل، والمكونات المستوردة حاضرة، لكن الأزمة في المورد المحلي، الذي لم يلحق بعد بهذا التوسع.
القدرة الاستيعابية للمصانع المحلية والمكملة للصناعات المغذية لا تكفي لتغطية التوسعات الجديدة لشركات السيارات ولا لمواكبة هذا النمو المتسارع، بحسب الأمين العام لرابطة مصنعي السيارات في مصر، خالد سعد.
رأي سعد يؤكد المفارقة: سيارات تُعلن وتُسعّر وتُروج، ثم تغيب عن السوق، ليس بسبب مشاكل في الإنتاج، بل لأن المورد المحلي – الذي يفترض أن يمد المصنع بقطعه- ما زال في منتصف الطريق.
اختلال التوازن
وبالفعل شركات عديدة بدأت تمول الموردين وتساعدهم على التوسع، لكن في الصناعة هناك حقيقة لا يمكن إنكارها: المال لا يشتري الوقت.
سعد أكد أن بعض الشركات المحلية تقوم حالياً بدراسات توسعية لمصانعها، لبحث تغطية الطلبات الجديدة بما يتماشى وسرعة نمو القطاع.
لكن حتى لو تم ضخ استثمارات، يحتاج المورد إلى وقت ليطوّر آلياته، ويدرب عمالته، ويؤمن انتظام الإنتاج بالجودة المطلوبة.. وخلال هذه الفترة، يختل التوازن بين العرض والطلب، فتنخفض الكميات المطروحة، وترتفع الأسعار، وتظهر ظاهرة “الأوفر برايس” حتى على السيارات المحلية، التي من المفترض أن تكون أرخص من المستورد.
وهنا يختل الأساس الذي قامت عليه فلسفة التجميع المحلي: أن تكون السيارة متوفرة، بسعر مقبول، في متناول المستهلك.
هكذا حال النمو الصناعي
لكن الأزمة، وإن كانت حادة، ليست نهائية. فالنمو الصناعي دائمًا ما يسبق البنية الداعمة له، وكما لحقت خطوط الإنتاج بالطلب، سيلحق بها الموردون، إذا ما وُضعت لهم خريطة طريق حقيقية.
“لابد من دخول الشركات العالمية الأم في شراكات حقيقية مع المصانع المحلية، لضمان سلسلة إنتاج متكاملة تضمن استدامة التصنيع وتوافر المنتج في السوق في الوقت نفسه” حسبما قال الأمين العام لرابطة مصنعي السيارات في مصر.
في صناعة السيارات لا يمكن بناء سلسلة إنتاج مكتملة دون موردين أقوياء، موردون يقدمون الأجزاء الصغيرة التي تبني منها الآلة الكبيرة، لكن ما يحدث الآن هو أن خطوط التجميع سبقت السوق، بينما الموردون المحليون ما زالوا في منتصف الطريق.
هل السوق مؤهل؟
يقول رئيس إحدى الشركات المحلية المجمعة لطرازات عالمية في مصر رفض ذكر اسمه، إن الشركات بدأت تضخ استثمارات بالفعل لدعم سلاسل التوريد، والمشكلة ليست في عدد السيارات، بل في قدرة السوق على دعمها لوجستيًا وصناعيًا واستهلاكيًا”.
وتساءل: “هل لدينا سلاسل توريد قوية، هل لدينا موزعون مؤهلون، هل البنية التحتية مؤهلة لاستقبال هذا العدد، والأهم، هل المستهلك المصري اليوم يملك القدرة الشرائية الكافية لاستيعاب هذه القفزة في الإنتاج؟”.
المشهد المركب لا ينفي أن هناك تقدمًا، لكنه يذكرنا أن النجاح في ملف السيارات لا يقاس بعدد الموديلات الجديدة، بل بعدد السيارات التي تصل فعليًا إلى المستهلك في وقتها وبسعرها العادل.
السيارة التي تُجمع لتكون محلية، لا يجب أن تُباع كأنها نادرة، ولا يجب أن تكون رهينة لتأخر مورد أو تعثر شحنة أو فجوة تمويل، هكذا أشار المصدر الذي فضل عدم ذكر اسمه.
وأضاف: ” لو أردنا لهذه التجربة أن تكتمل، علينا أن ننتقل من فكرة التجميع إلى فلسفة التصنيع، من مجرد إدخال السيارة إلى السوق إلى ضمان وجودها فيه، بحيث تكون حاضرة ومتاحة، بلا أوفر برايس، أو بلا وعد مؤجل”.
لمتابعة أخر الأخبار والتحليلات من إيكونومي بلس عبر واتس اب اضغط هنا