تبرز إندونيسيا كالدولة التى طبقت أكثر المعايير تطرفا للمحفزات الاقتصادية فى عصر فيروس كورونا.
وتقوم جاكرتا، بلا خجل بتسييل الدين الحكومى – أى إصدار سندات لتمويل الإنفاق الحكومى ثم شراء هذه السندات من السوق الثانوى – وهى فكرة كانت تعد ذات يوم بمثابة هرطقة فى دوائر النخبة، بسبب المخاوف من أنها ستؤجج التضخم وتضعف العملة وتقوض استقلالية البنك المركزى.
ولكن هذه الفكرة تشق طريقها ببطء نحو الضوء. وقال البنك المركزى يوم الثلاثاء الماضى إنه سيشترى سندات بقيمة 574.4 تريليون روبية أى 40 مليار دولار من الحكومة معظمها من خلال عطاءات خاصة.
وتعد هذه التجربة جديرة بالثناء وتشير إلى مدى التطرف الذى ذهب إليه العالم فى سياسته النقدية، وهو أمر محمود.. بل إن هذه التجربة قد تشكل نموذجا للأسواق الناشئة الأخرى.
ويجد البنك المركزى الاندونيسى نفسه الآن يمول موازنات ضخمة تهدف إلى توجيه أكبر رابع دولة فى العالم كثافة بالسكان، من أعمق ركود تشهده منذ عقود، ويساعد عشرات ملايين المواطنين على تجنب الانزلاق أكثر فى الفقر.
وبالتأكيد هو ليس وحده الذى يقوم بذلك، فقد خفض المسئولون حول العالم أسعار الفائدة إلى الصفر، وانخرطوا فى برامج تيسير كمى وعززوا أداء الأسواق. وأطلقت وزارات المالية موازنات تكميلية لتخفيف التأثير المدمر لـ«كوفيد 19».
ولكن القليل من البنوك – إن وجد أصلا – ذهب إلى هذا المدى، وقد تكون المسألة مسألة وقت قبل أن تحذو البنوك المركزية فى الأسواق الناشئة حذو البنك المركزى الاندونيسى.
فالاقتصاد الهندى أصبح مقيدا ويواجه عجزا متزايدا فى الموازنة. أما ماليزيا فقد أطلقت أربعة حزم إغاثة وأسعار الفائدة لديها عند مستوى منخفض قياسى.
وإذا لم تدفع إندونيسيا ثمنا باهظا لقاء هذه السياسة – ناهيكم عن عدم وجود أى عقوبات – فإن الآخرين سيشعرون بالإغراء لاتباع النهج نفسه.
واشترى البنك المركزى الفلبينى، بالفعل، كميات ديون أقل بكثير من السوق الثانوى
، وأعرب عن اهتمامه فى الذهاب إلى أبعد من ذلك قليلا.
وتحاول جاكرتا، الهروب من القيود القائمة منذ وقت طويل. فالروبية ليست عملة احتياطى على عكس الدولار أو اليورو.. ولدى الدولة عجزا مزعجا فى الحساب الجارى، المقياس الأوسع للتجارة، وهو ما يعنى أن موجة من مبيعات السندات للمستثمرين التقليديين بما فى ذلك المشترون الدوليون ستضعف الروبية.
وهذا الكلام ليس كلاما نظريا. فقد انحدرت إندونيسيا فى فوضى سياسية وعنف اجتماعى أواخر التسعينيات من القرن الماضى عندما انهارت العملة خلال الأزمة المالية الآسيوية.
ولطالما ترددت البنوك المركزية فى تسييل الديون بشكل مباشر، لأن التسييل يتحدى فكرة أن السياسة النقدية ينبغى أن تكون مستقلة عن عالم السياسة، والسبب الآخر فى كونها موضوعا يحرُم مناقشته هو المخاطر المتعلقة بأن الإنفاق المتهور سيقود إلى تضخم.
ومعروف أن بنك اندونيسيا لا يعطى وزارة المالية أموالا مجانية.. بل إن الحكومة ستدفع سعر الفائدة الرسمى الذى يقف حاليا عند %4.25 وليس %0 كما يخشى البعض.
وقال محافظ البنك المركزى بيرى واريجيو، إن التضخم تحت السيطرة.. وحتى إذا ارتفع فإنه قادر على احتوائه.
ويعد واريجيو جندى، محظوظا فى هذه الثورة. فالانكماش هو تهديد أكبر من التضخم، الذى اتخذ مسارا هبوطيا حول العالم لسنوات قبل ظهور «كوفيد 19». واندونيسيا ليست استثناء، فمعدل الزيادة السنوية فى مؤشر الاسعار الاستهلاكية انخفض إلى أدنى النطاق المستهدف للمركزى ما بين %2 و%4.
وإذا فعلت السياسة النقدية الإندونيسية شيئا، فقد كشفت حدود استهداف التضخم باعتباره الدعامة الأساسية لهيكل البنوك المركزية، واقترضت الأسواق الناشئة هذه الإطار من الغرب لتشترى المصداقية فى أعين المستثمرين، ومع الوقت اكتسبت من الغرب كذلك التوجيهات الإرشادية المستقبلية والتوقعات العامة والمؤتمرات الصحافية.
ولكن هذه النماذج ليست محفورة على الصخر، ولدى إندونيسيا والعالم اليوم أولويات أكبر، ونتيجة لذلك بدات فرق السياسة النقدية والسياسة المالية العمل عن قرب لمكافخة أزمة لا تتكرر فى العمر إلا مرة واحدة واختفت الحدود فيما بينهما.
وفى جاكرتا، يعد المصطلح السياسى الصحيح لتسييل الديون هو «مشاركة الأعباء».
وقد لا تستمر هذه الشجاعة، حال شعر المستثمرون بالفزع من احتمالية سحب المحفزات من الاقتصادات الكبيرة – مثل نوبة الغضب التى انتابت الأسواق فى 2013 – أو تم اكتشاف مصل للفيروس.. حينها قد نشهد رجوع اندونيسيا إلى النموذج التقليدى.
وكان المسئولون واضحين بشأن نواياهم، كما أن مسئولة تنفيذية كبيرة سابقة فى البنك الدولى فى واشنطن، وهى سرى موليانى، بمثابة أصل هام وهى المديرة الفعلية لعلاقات المستثمرين لدى الرئيس جوكو ويدودو، وستكون متيقظة لأصغر تحول فى المعنويات والذى سيُخضع الأسواق الناشئة مجددا للألم.
ويعد البنك المركزي الاندونيسي، مقرض أكثر تساهلا مما كان عليه صندوق النقد الدولى منذ 20 عاما. وإذا لم تنجح هذه المقامرة، فقد يظهر صندوق النقد مجددا فى الأفق، وفى حال نجحت، فستكون تجربة السياسة فى اندونيسيا موضوعا للكتب الدراسية والندوات المالية لأعوام مقبلة.
بقلم: دانييل موس
لمتابعة أخر الأخبار والتحليلات من إيكونومي بلس عبر واتس اب اضغط هنا