ملفات

تكنولوجيا الحقوق العمالية.. بدائل جديدة للتنظيمات النقابية

شهدت المدن الصناعية الكبرى فى بريطانيا وفرنسا مثل “مانشستر” و”ليون” احتجاجات عمالية عنيفة فى القرن الـ19 ضد تزايد دور الآلات الحديثة فى المصانع على حساب العمال، حيث ساد اعتقاد بأنها ستؤدى إلى تسريحهم من وظائفهم.
ومنذ ذلك الوقت باتت الطبقات العمالية تنظر لأى تطوير صناعى وتكنولوجى على أنه تهديد لوجودهم، ويتكرر المشهد الآن حيث يتحدث البعض عن أن أتمتت العمل فى المصانع يعنى الاستغناء عن العنصر البشرى، لكن التاريخ يقول إن التطور التكنولوجى كما يؤدى إلى اختفاء بعض الوظائف ينجم عنه أيضاً وظائف جديدة، لكنها تحتاج لمهارات أفضل وبطبيعة الحال يتكيف العالم مع الوضع الجديد.
وحين تنظر النقابات العمالية إلى التكنولوجيا على أنها تهديد لدورها ولحقوق العمال من أعضائها يبدو أن الوقت قد حان للبحث فى سبل الاستفادة منها لدعم حقوق أعضائها ومساعدتهم فى الدخول بعملية تطوير ذاتية للتأقلم مع الأوضاع الجديدة فى سوق الوظائف الذى بات يبحث عن الابتكار والإبداع أكثر من أى شىء آخر.
يطلق «يورج سبرايف» ابتسامة النصر الألمانية، لكنها لا تخفى شخصيته الجادة أو التهديدات الواضحة بالدعوة لإضراب أعضاء اتحاد يضم مالكى قنوات الفيديوهات الشهيرة على موقع «يوتيوب» المملوك لـ»جوجل» حالياً.
قال «سبرايف» محتجاً على تعطيل ظهور الإعلانات على قنواتهم «إذا توقفوا سنوجه لهم ضربة مؤلمة»، ويدير «سبرايف» قناة تقدم فيديوهات عن الأسلحة باسم «The Slingshot Channel»، والتى تضم أكثر من 2 مليون مشترك.
وهو أيضًا مؤسس اتحاد مستخدمى «يوتيوب» وفيه أكثر من 16 ألف عضو، حيث أطلقه فى شهر مارس بعد توقف شركة «يوتيوب» عن عرض الإعلانات بجانب العديد من مقاطع الفيديو الخاصة به وآخرين وذلك بعد ضغوط من المعلنين.
وتسبب ذلك الإجراء فى انخفاض دخله من 6500 دولار إلى 1500 دولار فى الشهر، ويمثل المطلب الرئيسى للاتحاد فى وقف الانتقائية عند عرض المواد الإعلانية.
لا تتطلب العضوية فى هذا الاتحاد الأفتراضى سوى الاشتراك بمجموعة على «فيس بوك»، لكن من غير المحتمل أن يستجيب الأعضاء الآخرين لدعوته لإزالة محتواهم من يوتيوب إذا لم يخضع لرغباته.
وتقول مجلة «إيكونوميست» فى تقريرها إنه رغم انخفاض التوقعات حيال نتائج عمل هذا الاتحاد الافتراضى لكنه يرمز إلى مرحلة جديدة من التفاعل بين التقدم التكنولوجى والقوى النقابية فى وقت تعانى فيه الاتحادات العمالية من حالة تدهور طويل الأمد بجميع أنحاء العالم الغنى لعقود من الزمان لأسباب فى مقدمتها التغيرات التكنولوجية.
والآن، قد تساعد التكنولوجيا مثل وسائل التواصل الاجتماعى والذكاء الصناعى فى تنظيم العمل النقابى للدفاع عن الحقوق العمالية من جديد.

وسائل التواصل الاجتماعى تعيد ربط عناصر الحراك العمالى

منصات الإنترنت وراء نجاح إضراب مدرسى ولاية فرجينيا الأمريكية %58 من مناقشات العمال فى أفريقيا وآسيا تجرى عبر أدوات رقمية
يأمل الخبراء فى أن تلعب التكنولوجيا دوراً مركزياً فى المساعدة على إحياء دور النقابات خاصة فى الولايات المتحدة، حيث يحاول الناشطون إيجاد طرق جديدة مبتكرة لتنظيم العمالة.
ويحل استخدام وسائل التواصل الاجتماعى محل الاجتماع فى ما يسمى «الإجراء المتصل عبر الإنترنت»، حيث توفر منصات مثل «فيس بوك» و”واتساب» و”ريديت» و”هاستل» ميزات تسمح للمجموعات العمالية بالقيام بـ3 أشياء هى جمع المعلومات والتنسيق بين العمال وتوصيل صوت حملاتهم الدعائية إلى عالم أوسع.
وعلى صعيد المعلومات توفر مواقع الإنترنت مجالاً لتبادل المعرفة والأحداث فعلى سبيل المثال يعمل سائقو شركة «أوبر» بشكل مستقل لكن العديد منهم ينشطون فى مجموعات الدردشة والمنتديات الأخرى، وغالباً ما تختبر الشركة ميزات جديدة لتطبيقها على مجموعة صغيرة من السائقين دون إخبارهم بما يحدث.
ويقول «أليكس روزنبلت”، مؤلف كتاب «أوبرلاند»، وهو كتاب جديد عن الشركة، إن الاتصالات عبر الإنترنت هى محاولة للتغلب على عيب نقص المعلومات، كما أن المقارنة بين الملاحظات منتشرة على نطاق واسع بين مستخدمى منصات التعهيد الجماعى العالمى مثل «تراكمان ميكانيكى» و«فريلانسر»، حيث يتم تداول اليد العاملة الرقمية.
ومن بين 658 عاملاً عبر الإنترنت فى إفريقيا جنوب الصحراء وجنوب شرق آسيا أجرى مقابلات معهم «مارك غراهام» وزملاؤه بجامعة «أكسفورد»، قال %58، إنهم على اتصال من خلال وسيلة رقمية بعمال آخرين على الأقل مرة فى الأسبوع ومعظمهم هذه الوسائل تدور حول وسائل التواصل الاجتماعى، وتتركز محادثاتهم عادة عن كيفية بناء مهنة وتجنب عمليات الاحتيال، ولكن أيضاً حول الرواتب للوظائف وكيفية تحسينها.
أما بالنسبة إلى الهدف الثانى وهو التنسيق فيمكن القول، إنه بدون أدوات رقمية، فإن إضرابات المعلمين فى «ويست فيرجينيا» والولايات الأمريكية الأخرى فى وقت سابق من هذا العام لم تكن لتكون ناجحة بحسب وجهة نظر «جين مكاليفى» وهى منظمة قديمة للفعاليات ومؤلفة للعديد من الكتب حول النقابات.


ويشير تقرير لمجلة «إيكونوميست» البريطانية إلى أنه فى الولايات المتحدة وتحديداً بولاية «فرجينيا» أنشأ المعلمون مجموعة على «فيس بوك» كانت مفتوحة للزملاء المدعوين فقط.
وانضم حوالى %70 من المعلمين فى الولاية البالغ عددهم 35000 معلماً، وأصبحت المجموعة محور المناقشات حول ما يجب طلبه وكيفية تنظيم الاحتجاجات.
ويعد إضراب «ويست فرجينيا» مثالاً جيداً على الهدف الثالث وهو نشر الخبر والترويج للحملات الدعائية حيث تحولت مجموعة «فيس بوك» إلى مصنع للكتابات وكذلك نشر الصور المميزة أو مقاطع فيديو المنتشرة عبر الإنترنت.
وقد حدث نفس الشىء عندما رفضت سلسلة مقاهى «ستاربكس» السماح للعاملين بإظهار الوشم الموجود على أجسامهم إثر قرار إدارة برفض قيام موظفون بالتقاط صوراً للرسوم على أجسادهم وتحميلها على وسائل التواصل الاجتماعى.
ومع ذلك، فإن الخدمات مثل «فيس بوك» و”واتساب» ليست مصممة للنشاط الجماعى مما يخلق بعض القيود حيث تفتقر إلى الأدوات اللازمة للانتقال إلى ما هو أبعد من المناقشة إلى أشكال أكثر تنظيماً.
وعلى سبيل المثال تحد خدمة «واتساب» الذى تستخدمه العديد من برامج تشغيل «أوبر» من حجم مجموعات الرسائل النصية، كما أنها أيضاً عرضة للتضليل والتصيد.
وعلى «فيس بوك» إذا سألت موظفة عن حقوقها عندما تكون حاملاً فإن بعض التعليقات فقط قد تكون مفيدة وأحياناً غير لائقة كما تقول «أندريا دلهندورف» من «المنظمة المتحدة من أجل الاحترام» التى تدعم عمال التجزئة فى «وول مارت» وأماكن أخرى.
ونتيجة لذلك، بدأ الناشطون فى تطوير خدمات رقمية خاصة بالمجموعات العمالية مثل «Coworker.org»، حيث تم تأسيس الموقع عام 2013، ويساعد العمال على تجميع مطالبهم ونشرها على مواقع التواصل الاجتماعى.
كما أطلق موظفو «ستاربكس» العديد من الحملات الناجحة ليس فقط حول الوشم، حيث دفعوا الشركة للتقليل من تكليف شخص بإغلاق المتجر فى وقت متأخر من المساء ليقوم بنفسه بفتحه عند بزوغ فجر اليوم التالى.

جيل الناشطين الجدد يعيد تنظيم العمل النقابى

كان موقع «Coworker.org» الذى انطلق عام 2013 بالولايات المتحدة مثالاً معزولاً لفترة طويلة، لكن بمرور الوقت ازدهرت خدمات مماثلة من خلال محاكاة نهج هذه الشركة الناشئة فى تفكيك أدوار النقابات الرسمية.
وتقوم مثل هذه الشركات بتوزيع المهام المختلفة للنقابات فى سلسلة من البدائل الرقمية المنفصلة وبهذه الطريقة يقوم جيل جديد من الناشطين بتغيير الطريقة التى يمكن للعمال تنظيمها.
وتهدف بعض الشركات الناشئة إلى تنفيذ أدوار مثل الإعلام العمالى وضم الأعضاء الجدد للتنظيم العمالى الشعبى.
وقبل عامين ظهر تطبيق «ourlaunched Workit»، للهواتف الذكية لدعم عمال شركة «وول مارت»، وبمجرد الاشتراك فى هذا التطبيق، يتم عرض المستخدمين على واجهة دردشة بسيطة حيث يمكنهم طرح أسئلة حول اللوائح المعقدة فى أماكن العمل المتناثرة بسلسلة البيع بالتجزئة، ويتطوع فى كثير من الأحيان الموظفين فى «وول مارت» للإجابة بأنفسهم.
ويركز آخرون على مساعدة العمال فى التعبير عن آرائهم، وغالباً ما يتم انتقاد رؤساء النقابات بسبب عدم إبداء اهتمامهم بمطالبهم.
وتقول التجربة، إن التطبيق بات بمثابة ورشة عمل تحاول أن توفر البنية المناسبة فى كثير من الأحيان للمناقشات الحرة على الإنترنت وتمكين الموظفين من التعبير عن مشاكلهم دون خوف من التداعيات حيث يتم عرض التعليقات بدون الأسماء، كما يتم تقسيم اتفاقيات التفاوض الجماعية إلى شرائح صغيرة يمكن للأعضاء مناقشتها.
ثم يأتى البحث عن طرق لكسب المال لتمويل الأنشطة العمالية الرقمية وهو ما دفع اتحاد العمال المستقلين فى بريطانيا إلى تمويل أنشطته القانونية ضد شركة «ديلفيرو» وهى شركة توصيل عبر الإنترنت تتهمها بإنكار حقوق العمل لموظفى التوصيل عبر شركات تمويل جماعى.
كما يفرض موقع «TurkerView» وهو موقع أمريكى يجمع ويعرض المراجعات المجانية للعملاء الذين ينشرون وظائف على شركة «ميكانيكال تراك»، رسوماً لخدمة متميزة على المستخدمين الذين يريدون الوصول التلقائى إلى البيانات.
وبعض هذه المشاريع تنتشر بسرعة فمثلا تطبيق «Workit» أعطى الرخصة باستخدام نظامه للتشغيل لمنظمات عمل أخرى بما فى ذلك مركز عمال «فلبينو» فى لوس أنجلوس و»يونيتد فيوس» و«استراليات يونيون» مقابل رسوم سنوية.
كما يستخدم موقع «Coworker.org» من قبل موظفين من أكثر من 50 شركة فبالنسبة لـ«ستاربكس» أصبح اتحاده يضم أكثر من 42 ألف شخص فى 30 دولة مرتبطون عبر هذه الخدمة.
ومع ذلك، وكما تؤكد أى شركة ناشئة، فإن إطلاق خدمة جديدة أسهل بكثير من التوسع فى الخدمة حيث تعتمد معظم مشاريع التكنولوجيا العاملة الوليدة على التبرعات من المحسنين والصناديق الاستثمارية ذات التفكير الاجتماعى ومصادر مماثلة، لكن ليس من الواضح من أين ستأتى برأسمال يسمح لها بالنمو.
بالإضافة إلى ذلك، تفتقر هذه الخدمات إلى المكانة القانونية والقوة السياسية للنقابات التقليدية، كما يشير «ديفيد رولف» من الاتحاد الدولى لموظفى الخدمة الأمريكية.

الاتحادات التقليدية تلجأ للمواقع الإلكترونية لإحياء دورها

قد تحتاج الشركات المطورة لمواقع وتطبيقات الحقوق العمالية إلى دعم النقابات التقليدية إذا كان عليها أن تتحول إلى قوة لا يستهان بها وكذلك بات من الواضح أن الاتحادات العمالية ذاتها تحتاج لاختراق مجال الشبكة العنكبوتية إذا أرادات استعادة دورها الحيوى.
وتقول مجلة «إيكونوميست»، إن أفضل النتائج ستتحقق إذا تعاونت المجموعات الشعبية فى العالم الافتراضى والنقابات التقليدية.
ويشير «إياد العانى» الـستاذ بمعهد «ألكسندر فون هومبولت للإنترنت والمجتمع» إلى أنه يمكن أن تصبح النقابات مزودة خدمات لمجموعات التنظيم الذاتى وتقديم المساعدة لهم فى صور شتى مثل المشورة القانونية ودعم الضغط فى القضايا الحقوقية.
وبالفعل توجد اتحادات كبرى انتبهت لخطر الوقوف مكتوفة الأيدى أمام سلب المجموعات الشعبية والأدوات الرقمية لدورها فعلى سبيل المثال لجأ اتحاد «igMetall» أكبر اتحاد عمالى ألمانى لتوسيع قاعدته بالسماح للعمال العاملين لحسابهم الخاص بالانضمام إليه وفى عام 2015، أطلق أيضاً موقعًا لمقارنة ظروف العمل على منصات العمل الجماعى المختلفة، والتى يطلق عليها «Fair Crowd Work».
حتى أن بعض النقابات شكلت وحدات ابتكار مثل «hkLab» الذى تم إنشاؤه عام 2017 من قبل الاتحاد الوطنى للموظفين التجاريين والإداريين وهو أكبر اتحاد فى الدنمارك، وتشمل التجارب برنامج دردشة لتلقى استفسارات الأعضاء ومركز خدمة للعمال المستقلين.
وأسس التحالف الوطنى الأمريكى لعمال الخدمات المنزلية معمل «Fair Care Labs» وهو خدمة لتطوير المربيات ومقدمى الرعاية المنزلية ومنظفى المنازل، وسيطلق هذا المعمل قريباً خدمة «Alia»، وهى منصة لطلب الخدمة يدفع فيها العملاء بشكل طوعى 5 دولارات لكل مهمة مما يسمح بتمويل بعض التغطية التأمينية.
ويؤكد تقرير المجلة البريطانية أن الوقت لايزال مبكراً للقول بأن دخول النقابات الرسمية فى السباق الرقمى يعنى أنهم سيكون لديهم الفرصة لاستعادة دورهم.
وأضاف أن هذه التجارب يمكن الخروج منها باستفادة أساسية وهى أن الحركة العمالية الرقمية اثبتت أن المعلومات لها أهمية أكثر من أى وقت مضى.
وقد استخدم موقع «Coworker.org» استطلاعات رأى عبر الإنترنت لهذا الأمر لصالح شركة «أوبر» التى خفضت الأسعار مرة أخرى فى جميع أنحاء الولايات المتحدة، كما أنها عملت على وقف إجراءات تخفيض رواتب السائقين.
ويمكن تفسير هذه الاستجابة بأن الدعاية السيئة على الإنترنت من قبل السائقين تكافئ رقمياً للإضرابات العمالية من حيث التأثير كما تقول «ميشيل ميلر» الشريكة المؤسسة لهذا الموقع العمالى الناجح.
ولا يمكن لأحد إنكار العائد الربحى من الحصول على البيانات لأن أى منظومة عمل تهتم باستخراج معلوماتها عن الأعضاء والبيانات بدلاً من اللجوء إلى مصادر أخرى.
كما توفر هذه الخدمات منصات لتوصيل الأخبار والإجابة على الاستفسارات للعمال عندما يطلبون، كما يمكن استخدام برمجيات الخوارزميات للتنبؤ بأى إجراءات مستقبلية من قبل الشركة أو حتى العمال.

دور تاريخى للتطور التكنولوجى فى علاج ثغرات الدور النقابى

قاد التطور التقنى صعود الرأسمالية الصناعية فى منتصف القرن التاسع عشر وغيرت أنماط التوظيف فى ظل نظام الانطلاق للرأسمالية قبل الصناعية فكان العمال فى الغالب من التجار الأفراد الذين يعملون فى المنزل، مما جعل تشكيل تنظيم أمر غير عملى.
وحيث أن نظام العمل الرسمى فى المصانع أو المناجم أصبح هو القاعدة فقد تم جمع العمال معاً بعد ذلك مما سهل عملية التنظيم، كما أصبح الأمر أكثر وضوحاً للعمال فيما يتعلق بالذين تم استغلالهم والذين يقومون بعملية الاستغلال، وربما يجود التاريخ بتجربة أخرى تكون لأنماط تكنولوجية جديدة دوراً فى خلق أنماط مستحدثة من الحركة النقابية العمالية.
لكن يبدو أن إحياء الحركة النقابية أمر مستبعد على غرار القرن التاسع عشر فحتى قبل منتصف ذلك القرن لم يكن هناك نقابة عمالية تقريباً ومع تطور التصنيع والتحضر العمالى ليكون أقرب ما يكون للتنظيم لدعم جهود التفاوض حول الأجور وظروف العمل.
وذكرت المجلة البريطانية فى تقريرها أن معدل عضوية الاتحادات العمالية فى الولايات المتحدة بلغ %10 من الموظفين بحلول عام 1915 قبل أن يصل إلى %30 بحلول 1950، ووصلت النسبة فى السويد لحوالى 40% عام 1930، كما هو الحال فى بريطانيا فى خمسينيات القرن الماضى عندما كان 10 ملايين عامل ينتمون إلى نقابة العمال.
لكن التراجع السريع جاء على حين غرة عبر البلدان الغنية فانخفض الإقبال على عضوية الاتحادات العمالية بشكل حاد، فواحد فقط من كل عشرة موظفين أمريكيين حصل على عضوية فى اتحاد عمالى حالياً وبلغ متوسط نسبة عضوية الاتحادات فى دول منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية حوالى %18، بانخفاض ذروتها التى كانت فوق %50 أوائل الثمانينيات من القرن المنقضى.

وتوجد العديد من التفسيرات لصعود وسقوط النقابات، فبعض النظريات تؤكد أن القوانين المقيدة للأنشطة العمالية كان لها دور مؤثر فى بداية الحركات العمالية وجاءت الأحكام القانونية الأقدم حول النقابات فى أمريكا فى ظل القانون الإنجليزى باعتبارها بمثابة مؤامرات إجرامية الهدف منها رفع الأسعار وتثبيط التجارة.
ومع مرور الوقت، أصبحت البيئة القانونية للنقابات تدريجياً أكثر صداقة بالنسبة للدولة حتى ظهرت القوانين الجديدة فى أواخر القرن العشرين.
وفى الثمانينيات وبعد زعامة «مارجريت تاتشر» فى بريطانيا و»رونالد ريجان» فى أمريكا، سعت الحكومات إلى مكافحة الإضرابات وممارسات تعطيل العمل ومطالب الأجور التضخمية بالقوانين التى تقيد بشكل كبير سلطات الاتحادات العمالية.
لكن البحوث التى تظهر وجود صلة قوية بين التغييرات القانونية ومعدل العضوية نادرة، وقد أيدت ورقة بحثية ـ»لويليام براون» من جامعة كامبريدج وزملاؤه تناولت الفترة ما بين 1979 و1997، فكرة أن التغيير التشريعى البريطانى لم يمارس تأثيراً كبيراً على العضوية النقابية.
وفى الواقع بدأت النقابات بالازدهار فقط بعد عقود من الزمن من تجريمها، ولكن تلاشى قوتها بدأ قبل وقت طويل من ظهور قوانين أكثر صرامة فى الثمانينيات.
ويربط باحثون آخرون الازدهار والتلاشى لدرو النقابات العمالية بمستوى الوعى الطبقى وهو تفسير آخر يمكن وصفه بأنه صعب القياس لتحديد تأثيره على صعود وهبوط دورها فى الدفاع عن الحقوق العمالية.
وتوجد نظرية أكثر إقناعاً والتى يوجد لها بعض الدعم التجريبى مفادها أن الدولة قد تخطت الحاجة إلى النقابات العمالية مع طفرة دور القطاع الخاص لتقوم بدلاً عنها بالدفاع عن حقوق العمال
وقننت معظم الدول الغنية الآن الحد الأدنى من الأجور المضمونة، وفى العديد من الأماكن تم تكريس حقوق العمال فى القانون وتوسيع نطاقها لتشمل أشياء مثل الإجازة الأبوية والأجر فى حالة الإجازة المرضية.

التقنيات الحديثة تدعم جهود المرأة العاملة فى الحصول على حقوقها

رغم نجاح النضال العمالى، خلال القرن الماضى فى الدفاع عن حقوق الأيدى العاملة لمواجهة توحش الآلة الصناعية، فإنَّ المرأة العاملة خرجت إلى القرن الـ21 بنجاح محدود على صعيد الحد من التميز ضدها وظاهرة فجوة الأجور لصالح الرجال.
وبحسب تقرير لموقع «سينجلتارى هاب»، فإنَّ أضرار هذا التميز لا تصيب فقط النساء فى سوق العمل بل يمتد أثرها السلبى إلى الاقتصاد العالمى من حيث الدخل المفقود الذى يقدر بمليارات الدولارات سنوياً.
وبالنظر إلى مؤشر الفجوة بين الجنسين الصادر عن الأمم المتحدة، ويرصد 144 دولة حول العالم من حيث التعليم والصحة والاقتصاد والسياسة، فإنَّ فجوة الأجور تظل أبرز مظاهر التمييز ضد السيدات، كما أنها تحتاج 100 عام لتجاوزها عبر جهود المجتمع الدولى رغم نمو الوعى العالمى فى هذا الصدد.
وتمثل نتائج هذ المؤشر انعكاساً لصورة أكبر من الحقوق المهدرة للمرأة التى خرجت إلى سوق العمل بجانب مشكلات أخرى مثل تعرضها للتحرش الجنسى.
ورغم أن طبقة العمال فى الدول المتقدمة تعانى تراجع القمية الحقيقية للأجور، فإنَّ نسبة الهبوط فى دخل النساء يفوق بكثير نسبة الرجال، خاصة بعد إنجاب السيدات للطفل الأول، ما يعنى أن معاناة الأمهات تتضاعف، مقارنة بالسيدات الأخريات؛ حيث ينظر إليهن على أنهن أقل قدرة على تحمل أعباء العمل خصوصاً فى المهن التى تتطلب العمل بدوام كامل.
ويأمل الخبراء فى أن التقدم التكنولوجى سيكون له دور كبير فى القرن الحالى بالدفاع عن الحقوق العمالية للمرأة ومساعدتها فى الحصول على وظائف تتميز بالمرونة وتراعى ظروفها العائلية، خاصة إذا كانت تعول أطفالاً.
وتعتبر الوظائف التى يمكن العمل فيها عن بعد من مظاهر مساهمة التقنيات الحديثة فى دعم المرأة العاملة؛ حيث يمكن لملايين السيدات العمل من منازلهن عبر منصات مثل «She Works« أو «Power To Fly» والتى تسمح للمرأة بالعمل عن بعد، وفى الوقت نفسه تحفظ للشركات حقها فى الأداء الجيد من خلال إدارة شفافة ومسئولة للمهام الوظيفية.
ويتطلب الأمر لتحقيق الهدف المنشور أن تطور المرأة من نفسها على صعيد التقدم التكنولوجى، لكن الخطوة الأولى ستكون من خلال البرامج الدراسية؛ حيث تشير الإحصاءات على سبيل المثال إلى أن نسبة الإناث فى فصول دراسة علوم الحاسب الآلى لا تتجاوز %28 فى الجامعات الأمريكية، ما يبرر حصولها فقط على %25 من الوظائف ذات الصلة المتاحة بسوق العمل، كما أنها تتقلد فقط %11 من المناصب التنفيذية بشركات التكنولوجيا فى الولايات المتحدة.
ومع الاعتراف بقصور جهود السيدات أنفسهن من حيث التعليم والتدريب لدخول السوق العملى فى تخصصات الحاسوب، بالإضافة إلى غياب النماذج الناجحة التى تعتبر قدوة لهن، الإ أن هناك ضعفاً فى دور النظام العام كعامل مساعد لها مع نقص شديد فى مبادرات المجتمع المدنى بهذا الإطار.
لكن السنوات الأخيرة شهدت العديد من المبادرات مثل منصات «Girls Who Code» و«Girls Learning Code» و«Kode With Klossy»، والتى توفر منحاً دراسية فى مجال علوم الحاسب الآلى، وبالفعل استفاد منها آلاف الفتيات فى منطقة أمريكا الشمالية.
وعلى صعيد ضعف النظام العام فى مواجهة التمييز ضد المرأة لاحظت منظمة الابتكار النسائى، أنَّ حضورهن فى المنصات العالمية لا يزيد على %29 خاصة فى المؤتمرات الكبرى، وقررت المنظمة القيام بدور المراقب، وكذلك الوسيط لضمان دعوة أكبر عدد من السيدات فى الفعاليات الدولية خاصة بمجال التكنولوجيا.
وعلى صعيد المجال العام لعمل المرأة فى الدول النامية، ظهرت مبادرات لتحسين ظروف السوق لاستقبال السيدات العاملات بدعم من الأمم المتحدة مثل مؤسسات »هاكثون« و»يو إن وومن« و«انوفيشن نورواى» التى تسعى للوصول للإناث حتى فى مخيمات اللجوء ومناطق النزاعات. وتتطلب هذه المبادرات تمويلاً من الدول المانحة بمئات الملايين من الدولارات، لكن هذا لا يعنى أنها أموال مهدرة؛ لأن الخبراء يقدرون العائد على الاستثمار فى تمكين المرأة بزيادة قدرها 12 تريليون دولار فى النمو العالمى، وتمثل التكنولوجيا فى هذا النجاح الأداة الأهم لمواجهة التحدى.

طفرة أساليب الإنتاج الحديثة تدعم قوى العمل المنظمة

تحسن الظروف وتغير نمط الوظائف وراء تراجع الاتحادات المهنية

أعطى تغيير أنماط الاستثمار خلال الثورة الصناعية المزيد من القوة للعمل المنظم، مما ساعد فى تنمية دور النقابات، ففى القرن الـ19 بدأ أرباب العمل فى إنفاق مبالغ طائلة على المصانع والمناجم والسكك الحديدية، وساهم نمو حجم رأس المال الثابت فى ممارسة العمال لسلطة أكبر.
ويرى «تيم ميتشل» فى كتابه «Carbon Carbon»، أن عمال المناجم على سبيل المثال استغلوا نقاط خنق جديدة فى الاقتصاد، حيث يتطلب إخراج الفحم من الأرض مجموعات صغيرة منهم للعمل فى الحفرة فى حين لم يكن من السهل استبدالهم.
وقد أعطى ذلك لهم نفوذاً هائلاً، لأن الاقتصاد العالمى فى ذلك الوقت يعتمد على الفحم كوقود أساسى فى جميع الأنحاء بداية من محطات الطاقة إلى السكك الحديدية، بحيث يمكن أن يؤدى الإضراب تقريباً إلى توقف الحياة فى البلاد.
وعلى مدى السنوات الـ30 الماضية، تسبب التغير التكنولوجى فى تراجع دور النقابات، حيث انخفضت تكلفة جمع المعلومات ومعالجتها، مما يسّر تقييم نتائج أفراد العمل.
ففى أمريكا ارتفعت نسبة الوظائف التى تقدم الأجر حسب مستوى الأداء من %30 فى أواخر السبعينيات إلى أكثر من %40 فى التسعينيات، وإذا كانت الأجور تتوافق مع الإنتاج الشخصى، فقد يشعر الموظفون أن طاقاتهم موجهة بشكل أفضل نحو العمل بجد أكثر من التفكير فى الانضمام إلى تنظيم ما مع آخرين.
وفى قطاعات العالم الغنى كثيفة رأس المال تراجعت عمليات التصنيع والتعدين التى تمثل القاعدة الشعبية للنقابات وتضخم دور قطاع الخدمات الأقل ترحيباً بالنقابات حيث باتت الاقتصادات المتقدمة تعتمد الآن على «الأشياء غير الملموسة»، مثل البرمجيات وبراءات الاختراع.
ومن الأسهل نقل مركز الاتصال إلى موقع مختلف، بما فى ذلك إلى بلد جديد، ومن غير المرجح أن يساوم العمال الذين يشعرون بالسعادة من وجود وظائفهم على الإطلاق للحصول على المزيد.
وقد أدى انحسار النقابات إلى إحياء الحجج حول المميزات التى تقدمها للعمال وللاقتصاد ككل وانخفض عدد أيام العمل الضائعة بسبب الإضرابات فى العالم الغنى إلى جانب انخفاض قوة النقابة، مما عزز مستوى الإنتاج السنوى.
كما تراجع خطر التضخم الجامح حيث كانت تنشب معارك بين النقابات وأرباب العمل حول معدل ارتفاع الأجور وقد تقلصت حواجز الدخول إلى سوق العمل، مما يسهل على الشباب والنساء والأقليات العرقية العثور على عمل.
ويختلف المهتمون بجانب حقوق العمال حول العلاقة بين ضعف النقابات وانخفاض مساهمة «حصة العمل» للعمال فى شكل الأجور والمستحقات فى الناتج المحلى الإجمالى، فمن جهته يرى «أندى هالدان»، كبير الاقتصاديين فى بنك انجلترا أنه بالنسبة للاقتصاد البريطانى وجد أن ارتفاع عشرة نقاط مئوية فى معدل عضوية الاتحادات العمالية يزيد من نمو الأجور بحوالى 0.25 نقطة مئوية فى السنة.
لكن ورقة بحثية لمؤسسة «بروكنجز»، وهى مؤسسة فكرية، تدرس البيانات الأمريكية وجدت أن هناك علاقة غير دقيقة إحصائياً بين التغيرات بمعدلات العضوية فى النقابات والانخفاض فى حصص الرواتب.

المصدر: جريدة البورصة

لمتابعة أخر الأخبار والتحليلات من إيكونومي بلس عبر واتس اب اضغط هنا

الأكثر مشاهدة

النفط يصل لأعلى مستوياته منذ شهر وسط توقعات بارتفاع الطلب

استقرت أسعار النفط اليوم الخميس لتقترب من أعلى مستوى في...

البنك الأهلي يستحوذ على 24% من رأسمال “هايد بارك” العقارية

استحوذ البنك الأهلي المصري على حصة البنك العقاري المصري العربي...

منطقة إعلانية