مقالات عقارات

استغلال الحكومات للثروات العامة

بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، صعدت «هافانا» كواحدة من المدن العالمية الأكثر حيوية، وخلال النصف الأول من عام 1920، تسببت أسعار السكر المرتفعة، والبيئة العالمية المحببة فى تدفق الائتمان والتمويل إلى كوبا، وغذت ما يعرف برقص المليونات.
ولكن كما ذكر الاقتصادى، ديفيد لوبين، فى كتابه «رقص التريليونات»، انتهت الحفلة بشكل مفاجئ قبل انتهاء العام، وهو ما يعود بقدر كبير إلى رفع أسعار الفائدة الأمريكية التى سحبت السيولة مجدداً للولايات المتحدة، ولم تتعاف أبداً صناعة السكر الكوبية.
ومع تضاعف الائتمان الأمريكى للمقرضين من غير البنوك فى الدول النامية منذ الأزمة المالية العالمية فى 2008، والذى وصل إلى 3.7 تريليون دولار بنهاية 2017، يجب أن تكون تجربة كوبا بمثابة تحذير، ولكن بالنسبة للدول النامية اليوم، هناك تعقيد إضافى، وهو أن التمويل العالمى أصبح بشكل متزايد غير خاضع تماماً لمسودة إجماع واشنطن التى تشجع على الشفافية والالتزام بالقواعد التى تنطبق على الجميع، وإنما أصبح خاضعاً لـ«إجماع بكين» الغامض والمنحاز.
ومسودة «إجماع واشنطن» طرحها جون وليامسون عام 1989 لتكون علاجاً من 10 بنود للدول التى واجهت صعوبات مالية وإدارية واقتصادية، ووصفاً لكيفية تنويع اقتصادها وإدارة مواردها الطبيعية، بالإضافة إلى دعوتها البنك الدولى ومؤسسة النقد الدولية لتبنى هذه البنود.
وتعد الصين، حالياً، ثانى أكبر اقتصاد فى العالم والمقدم الرائد للائتمان للأسواق الناشئة حول العالم بعد أن ملأت الفجوة التى خلفها المقرضون الغربيون المتراجعون، وشروط هذه القروض غامضة لدرجة أن الصين وحدها هى من لديها معلومات حول حجم وآجال استحقاق وتكلفة الديون القائمة والتى يتم نشرها بموافقة الطرفين عادة لأسباب سياسية أو استراتيجية، ونتيجة ذلك أصبح تقييم استدامة الديون أكثر صعوبة من ذى قبل.
ولكن لا تحتاج الدول أن تكون تحت رحمة كبار المقرضين مثل الصين، فوفقاً لصندوق النقد الدولى، تقدر الأصول العامة العالمية على الأقل بضعف الناتج المحلى الإجمالى العالمى، وبدلاً من إهمال تلك الأصول، كما تفعل معظم الحكومات اليوم، يجب أن تستخدمها الدول لتوليد قيمة.
وتمتلك معظم الحكومات مطارات وموانئ وأنظمة مترو أنفاق، ومرافق، بخلاف عقارات أكثر مما يتخيل الأفراد، فعلى سبيل المثال، أظهرت الكشوف المالية لـ«بوسطن»، أن المدينة لديها صافى قيمة سلبى أى أن الالتزامات أعلى من الأصول، ولكن إجمالى الأصول العقارية للمدينة يساوى بالفعل 40 مرة قيمتها الاسمية، لأنها تقدر بتكلفتها التاريخية، بمعنى آخر، لدى المدينة كميات هائلة من الثروات المخفية.
و«بوسطن» ليست الوحيدة فى ذلك، فالعقارات العامة عادة تساوى %100 من الناتج المحلى الإجمالى لأى مدينة، وحوالى ربع القيمة الإجمالية للسوق العقارى، ولا تدرك الحكومات ذلك ببساطة، ما يتسبب فى تكاليف فرص بديلة هائلة.
وفى وجود إدارة محترفة مستقلة سياسياً، يمكن لمدينة أن تجنى %3 عائداً على أصولها التجارية، وهو ما قد يصل لدخل يعادل عدة مرات الدخل من الخطة الرأسمالية الحالية لـ«بوسطن».
وفى الواقع، بالنسبة للعديد من الاقتصادات، يمكن أن تحقق الإدارة الاحترافية للأصول العامة إيرادات سنوياً أعلى من الضرائب على الشركات، وهو ما سيرفع بقدر هائل التمويل المتاح للاستثمار فى البنية التحتية.
وثبت نجاح هذا النهج ليس فقط فى الدول الآسيوية؛ مثل سنغافوة، وهونج كونج، اللتين كانتا فقيرتين مثل العديد من المدن فى آسيا النامية اليوم، وبالتأكيد كانتا أقل تمتعاً بالموارد من كوبا فى الماضى. وينبغى أن نتذكر أنه عندما نالت سنغافورة استقلالها فى أواخر الستينيات، لم تكن مكاناً واعداً، بينما كانت مكاناً أكثر خطورة من معظم مدن اليوم.
ومع ذلك نجحت فى الانتعاش بفضل قرارها إطلاق العنان لثرواتها العامة من خلال دمج محافظ الأصول العامة فى صناديق الثروة السيادية، وتكليف مديرين محترفين بإدارة الأصول الحكومية التجارية.
واستخدمت «تيماسيك»، و«جى آى سى»، الشركتان القابضتان اللتان أسستهما الحكومة، أدوات إدارة مناسبة استعارتهما من القطاع الخاص لتمويل التنمية الاقتصادية فى سنغافورة، كما وفر صندوق الإسكان السنغافورى، حوالى %80 من مساكن المواطنين فى الدولة.
وبالمثل، فى التسعينيات، أجبرت الأزمة الاقتصادية ومستويات البطالة العالية «كوبنهاجن» على أن يبتكروا، وضموا منطقة الميناء وكذلك منطقة عسكرية على أطراف المدينة فى صندوق ثروة سيادية يدار بطريقة احترافية، وبجانب تحويل منطقة الميناء إلى منطقة ذات طلب سكنى عالٍ، ساعد الصندوق الحكومة على بناء نظام ترانزيت دون اللجوء إلى الإيرادات الضريبية.
وبالطريقة نفسها، تمكنت «هونج كونج» من بناء نظام مترو أنفاق وسكك حديدية معادل فى الحجم لشبكة نيويورك دون استخدام دولار واحد من أموال الضرائب، كما طورت العقارات المجاورة للمحطات.
ولا يوجد شك فى أن الاعتماد على رأس المال الخارجى يحمل بعض المخاطر، خاصة أن رؤوس الأموال تهرب بسهولة، كما تعلمت كوبا بالطريقة الصعبة، ويمكن أن يؤدى استغلال الأصول العامة القائمة إلى تقوية الأوضاع المالية للحكومة، وتعزيز استدامة الديون، وتحسين الجدارة الائتمانية، وتعزيز التنمية الاقتصادية على المدى الطويل، ولا يجب أن تقع أزمة لتجبر الحكومات على اتباع ذلك المسار.

بقلم:  داج ديتر

لمتابعة أخر الأخبار والتحليلات من إيكونومي بلس عبر واتس اب اضغط هنا

الأكثر مشاهدة

النفط يصل لأعلى مستوياته منذ شهر وسط توقعات بارتفاع الطلب

استقرت أسعار النفط اليوم الخميس لتقترب من أعلى مستوى في...

رغم الانفراجة الدولارية.. لماذا يستمر جدول انقطاع الكهرباء وإلى متى؟

كتبت: ميري راغب عاد المصريون لجداول تخفيف أحمال استهلاك الكهرباء...

منطقة إعلانية