مقالات

محمد العريان يكتب: تحليل السياسة التجارية العالمية

هناك تحول هادئ، ولكن مهم فى كيفية تفكير القادة السياسيين بشأن التجارة الدولية، بما فى ذلك كيفية معالجة المشكلات القائمة منذ وقت طويل، ويأتى هذا التغير من تباين مهم بين «ما هي» التجارة (هناك اتفاق واسع نسبياً بين الدول عن تعريفها) وبين «كيف تتم» (وهنا تؤدى الاختلافات إلى إضعاف العلاقات المهمة سواء عبر الأطلنطى أو بين الصين ودول العالم المتقدم).
ويبشر هذا التغير بمساحة للتفاؤل أكبر، مما توحى بها محادثات الحروب التجارية المدمرة، والقيود الاستثمارية الخانقة، والصراعات التكنولوجية، والتوترات المتزايدة بين القوى العظمى.
ويركز الاتفاق الواسع نسبياً فى مجال التجارة الدولية على أربعة افتراضات تدعمها الأبحاث والدلائل:
الأول، التجارة الحرة والنزيهة فى مصلحة معظم الشعوب فى أغلب الدول، ولكنها غير كافية لتحقيق الرخاء الشامل، ويمكن أن تضر ببعض قطاعات المجتمع وتهمشه، وبالتالى، لا تعد التجارة قضية اقتصادية بحتة، وإنما تتضمن أبعاد مؤسسية وسياسية واجتماعية.
والثانى، تتشكل التجارة أساساً من مجموعة تفاعلات طوعية مفيدة للطرفين والتى تتم كلعبة تعاونية، وفقاً للغة نظرية اللعب.
والثالث، تقوض المظالم التجارية الشرعية المتراكمة الفكرة المثالية والواقعية للتجارة الحرة والنزيهة، وتتعلق تلك المظالم على الأغلب بما يطلق عليه الاقتصاديون الحواجز غير التعريفية مثل سرقة الملكية الفكرية، وتسليح الادوات الاقتصادية والتنموية، والنقل الإجبارى للتكنولوجيا.
والافتراض الأخير يتمثل فى أن إصلاح هذه المشكلات أثبت أنه بطيء بطئاً محبطاً.
وهنا تبدأ مجالات الاختلاف الرئيسية فى الظهور، فكيف ينبغى معالجة مجموعة المشكلات المتراكمة التى تقوض التجارة الحرة والنزيهة؟
على مدار السنوات، ركز النهج المتعارف عليه على أن أفضل خيار هو اتباع نهج يركز على الحلول التعاونية، التى تتضمن المفاوضات فى أفضل صورها والخالية من عقوبات حقيقية أو مهدد بها مثل فرض التعريفات، وأن تعتمد على أطر القواعد التى وضعتها المؤسسات متعددة الأطراف.
أما النهج الأخر هو المتبع من قبل الرئيس الأمريكى، دونالد ترامب، بعد أن فشلت المجهودات السابقة فى منع تزايد الحواجز غير التعريفية، واتضح أنها لن تنجح، وتنفتح استراتيجية ترامب أكثر على استخدام العقوبات التعريفية لتعديل السلوكيات، وأيضا على التصعيد استجابة لأى وكل الردود الانتقامية من الشركاء التجاريين.
وفى البداية، انتقد الكثيرون هذه الاستراتيجية باعتبارها تحول سياسى سيء، والآن يتسائل المزيد من الأشخاص إذا كان النهج الأمريكى – بشرط أنه لم يستخدم مراراً وتكراراً – سوف يخدم كاضطراب مفيد يساعد فى إعادة ضبط العلاقات التجارية الدولية ويضعها على أرض أكثر صلابة.
وتعززت وجهة النظر الأمريكية بالدليل (بعد تحول دول مثل كندا والمكسيك وكوريا الجنوبية من الردود الانتقامية إلى الحل) وكذلك احتمال أن الصين لن يكون لديها خيار آخر، بسبب خياراتها المحدودة، سوى فعل نفس الشىء من خلال إزالة بعض حواجزها غير التعريفية.
وتتمثل مهمة المجتمع الدولى حالياً فى الاستفادة من النافذة الجديدة للتحرك بشكل شامل لتطبيق تدابير لمكافحة تباطؤ النمو، وتقليل مخاطر عدم الاستقرار المالى، وضمان المزيد من الرخاء الشامل، ويعد وضع هذه التدابير أقل إشكالية (حيث يتفق معظم الاقتصاديين على ما هو مطلوب)من الإرادة السياسية المطلوبة لتنفيذها.
وبداية، ينبغى إعادة إحياء السياسات المحلية الداعمة للنمو، باعتبارها أولوية أولى وأيضا لتخفيف الضغط على التجارة، وهذا يعد هاما بشكل خاص للصين والدول فى أوروبا بما فى ذلك أكبر ست اقتصادات فى الاتحاد الأوروبى.
ويجب التركيز على تحسين الإنتاجية، وإجراء تغييرات هيكلية للاستجابة بشكل أفضل للأحداث فى الاقتصاد العالمى اليوم وغدا، ووضع شبكات أمان أكثر فاعلية للشرائح الضعيفة والمهملة من المجتمع، ومعالجة أوجه القصور السوقية والحكومية التى تحبط النمو والاستثمار.
وعلاوة على ذلك، ينبغى تحديث الاتفاقات التجارية الحالية، وليس فقط لحل المشكلات القائمة وإنما كجزء من مجهود أوسع لتحسين مرونة هذه الترتيبات فى وجه التغير التكنولوجى السريع، وينبغى تخصيص عناية خاصة لتحسين التعامل مع البيانات الكبيرة وتحويل التكنولوجيا والبنية التحتية الرقمية والذكاء الاصطناعى والشبكات والحراك الاجتماعى، كما أن مواصلة إصلاح المؤسسات متعددة الأطراف لتحسين فعاليتها ومصداقيتها لا يقل أهمية عما سبق.
وأخيراً، يجب أن يقاوم المجتمع الدولى الترتيبات الإقليمية مثل مبادرة الحزام والطريق التى تستهدف تعزيز التنمية ولكن ينتهى بها الأمر مضعفة الدول الشريكة، وهذا يتطلب اتخاذ خطوات لتحسين الشفافية بشأن بنود وشروط المشروعات والديون لتمويل هذه المشروعات، ولتشجيع الاعتماد على العمالة المحلية، وضمان أن الدول المستقبلة لا تكبل بالالتزامات، كما يجب مقاومة الديون أحادية الاطراف المفرطة مقابل أصول مادية والتى من شأنها تشكيل تهديد حقيقى للأمن القومى.
وعادة ما يقال إن المخاطر تأتى مع فرص، وما بدا أولا كتحول مؤسف للولايات المتحدة نحو الحمائية قد يفتح فى الواقع نافذة لتحسين أداء الاقتصاد العالمى والتجارة العالمية، وسوف تكون الأشهر القليلة المقبلة حاسمة.

بقلم: محمد العريان
كبير المستشارين الاقتصاديين لمجموعة «اليانز»

لمتابعة أخر الأخبار والتحليلات من إيكونومي بلس عبر واتس اب اضغط هنا

الأكثر مشاهدة

النفط يصل لأعلى مستوياته منذ شهر وسط توقعات بارتفاع الطلب

استقرت أسعار النفط اليوم الخميس لتقترب من أعلى مستوى في...

الحكومة تبحث مع المجالس التصديرية سبل تحقيق 145 مليار دولار صادرات في 2030

اجتمعت الحكومة مع المجالس التصديرية لبحث سُبل تعميق الصناعات المحلية...

منطقة إعلانية