كانت انقطاعات الكهرباء الواسعة التى ضربت فنزويلا يوم الجمعة الماضية بمثابة تذكير آخر على وضع مأساوى يتفاقم يوماً عن يوم، ويأخذ الدولة أقرب إلى الخط الذى يفصل بين دولة هشة ودولة فاشلة ومنهارة، وفى الوقت الذى تتصاعد فيه المعاناة الإنسانية الرهيبة، ويزداد الوضع السياسى استقطاباً، يقال إن المجتمع الدولى مستعد لدعم انتقال منظم من الرئاسة الحالية، ويعود ذلك لسبب بسيط وهو أن المأساة الفنزويلية المطولة ليست فقط حادة وواسعة النطاق، ولكن أيضاً بدأت تؤثر خارج حدودها.
وتعد فنزويلا واحدة من التحديات الصعبة التى واجهها المجتمع الدولى عندما يتعلق الأمر باستعادة النظام المالى، والنمو الاقتصادى واستدامة الديون طويلة الأجل، ولكن إذا تم التعامل معها تعاملاً صحيحاً، سوف تكون مثالاً على ما يمكن أن يفعله التنسيق الدولى للمبادرات العامة والخاصة على حد سواء، من خلال التحليل الحذر والمتبصر.
واستغرق صنع أزمة فنزويلا سنوات عديدة، وتتطلب مجموعة مركزة من تدابير الإغاثة الاقتصادية والمالية، يليها خطوت مصممة جيداً لإعادة تأهيل وتعافى طويلة الأجل، ويجب أن يعزز ذلك مستوى من التواصل الموثوق فيه والانسجام السياسى الاجتماعى المحلى الذى غاب عن فنزويلا فى السنوات الأخيرة، بجانب تحديد نقاط تنسيق وتسويات متعددة بين الحكومات والكيانات الإقليمية والمؤسسات متعددة الأطراف والمقرضين من القطاع الخاص.
وبدون ذلك، لن يكون هناك أمل كبير فى معالجة قائمة طويلة من الفشل المتتالى الذى يتضمن الانهيار شبه المكتمل لسلاسل التوريد، والبنية التحتية المتهالكة والنقص الكبير فى البضائع والخدمات الأساسية، والتضخم شديد الارتفاع، ونظام سعر الصرف غير المستقر، والنظام المالى المتقلب، وسلسلة التعثرات المالية، وانهيار المؤسسات ما يهدد قطاع البترول الذى كان محط حسد الكثيرين فى وقت من الأوقات.
ويفتح التطور الأخير فى الوضع السياسى الداخلى نافذة لتغيير النظام، الذى نأمل أن يكون سلمى ومنظم، رغم أن ذلك غير أكيد بالمرة، وقد يؤدى تغيير النظام إلى تحول فى المأساة الانسانية الضخمة، وحينها يجب أن تكون أول 3 أولويات اقتصادية ومالية هى أولاً استعادة الإمدادات الوفيرة من البضائع والخدمات الأساسية فى أقرب وقت ممكن وبأكبر كميات ممكنة، بما فى ذلك المواد الغذائية والأدوية.
وثانياً، تغيير الانحدار الحاد فى إنتاج البترول والانهيار الكارثى فى النشاطات المرتبطة به، وثالثاً، تفعيل إمدادات شبكة الأمان لمساعدة الشرائح الأكثر ضعفاً والفئات الاجتماعية التى تعانى منذ وقت طويل، والتى تقترب من فقدان التغذية الكافية للبقاء على قيد الحياة والحماية والرعاية الصحية.
ولن تكون هذه الخطوات ممكنة بدون دعم مالى كبير من المصادر ثنائية ومتعددة الأطراف، بقيادة وتنسيق الولايات المتحدة، بجانب تقديم الاحتياجات المناسبة من قبل فنزويلا بأن هذه الأموال لن تستخدم لدفع المقرضين من القطاعين العام أو الخاص.
وسوف يكون التوقف المؤقت عن سداد الديون فوضوياً ومعقداً حتى إذا كان التركيز على المقرضين من القطاع الخاص، ويمكن أن يكون لتبادل الديون «أى استخدام ديون ذات فائدة أعلى لسداد ديون متعثرة» قدرة كبيرة على تغيير حجم وسمعة التزامات خدمة الديون الخارجية للدولة، كما أن وجود درجة عالية من التنسيق العالى بين المقرضين يمكن أن يفسح المجال لبنود خاصة تجعل من الممكن للدولة أن تستأنف الحصول على التمويلات قصيرة الأجل.
وإذا أضفنا الديون المملوكة للحكومات والكيانات المملوكة للحكومات، فسوف يكون ذلك أكبر وأكثر هياكل الديون تعقيداً فى تاريخ فئة الأسواق الناشئة، أكثر حتى مما شوهد فى حالات تعثر الأرجنتين وروسيا، كما أنه أكثر تعقيداً من الوضع العراقى.
وكذلك سوف يتطلب أى توقف مؤقت عن سداد الديون تعاون الحكومتين الروسية والصينية، اللتان قدمتا نقدية وقروضاً عينية فى السنوات الأخيرة، كما سيكون هناك حاجة لدرجة من الشفافية والإفصاح العالمى التى لم تكن متواجدة فى فنزويلا فحسب وإنما فى دول أخرى.
وسوف يمهد هذا الخليط من توفير البضائع والخدمات الأساسية على الأرفف، والزيادة التدريجية فى إنتاج البترول، وتحسين شبكات الأمان الاجتماعى، وفتح نافذة لسداد الديون، الطريق للمهمة الأصعب وهى إعادة ترميم البنية التحتية الاقتصادية، واستعادة الخدمات الاجتماعية، وإعادة ضبط الأوضاع المالية والنظام المالى، ووضع الحساب الخارجى ونظام سعر الصرف على أرض صلبة، وخلق مسار للنمو المستدام الشمولى والعالى.
ولا يحتمل الوضع أى أخطاء فتدابير التعافى الفورية واللاحقة التى تحتاجها فنزويلا بشدة ضخمة بكل المقاييس التحليلية أو العملية ومع ذلك، هناك أسباب للتفاؤل النسبى.
وتتمتع فنزويلا بمنح عديدة، وتضم أكبر احتياطيات البترول فى العالم، وسكانها لديهم مستوى عال نسبياً من التعليم والخبرة، وأعربت الولايات المتحدة بالفعل عن استعدادها للمساعدة تحت ظروف سياسية مناسبة، ولدى واشنطن وضع يخولها لقيادة مجهودات دولية واسعة، كما أن معظم الدول فى هذا الجزء من العالم لديها مصلحة فى تعافى جيرانهم وشركائهم الفنزويليين.
وعلاوة على ذلك، لدى فنزويلا القدرة على قلب صفحة الانهيار الاقتصادى والمالى المتسارع، وهذا التحول يمكن أن يذكرنا بأن مجهودات التعاون والتنسيق الدولى لديها دور مهم فى اقتصاد العالم الأكثر انقساماً حالياً.
بقلم: محمد العريان
كبير المستشارين الاقتصاديين لمجموعة «اليانز»
لمتابعة أخر الأخبار والتحليلات من إيكونومي بلس عبر واتس اب اضغط هنا