مقالات

هــل تــخــتـفـي إسـكـنـدريـتـنـا؟!

بقلم: د. عاطف معتمد

أخذت الصورة المرفقة الشهر الماضي من كورنيش الإسكندرية.

هذا المشهد يوجد مثله مئات المشاهد بطول كورنيش المدينة من المعمورة شرقا وحتى رأس التين غربا.

لا تترك الصورة مجالا للشك في أن القائمين على هندسة الشواطئ في المدينة يدركون جيدا الخطر الذي تتعرض له المدينة من ارتفاع منسوب البحر، فلجأوا إلى نوعين من أنواع الحماية تراهما في الصورة.

على اليسار كتل خرسانية في شكل المثلثات الشهيرة التي تلقى في البحر لصد الأمواج وتكسيرها، كي تبدد طاقتها فلا تهجم على الطريق الساحلي وتهدمه وقد تتوغل في شوارع المدينة.

يستوقفنا في الصورة نوع الحماية الثاني في وسط الصورة والذي تعبر عنه تلك الصخور الصفراء التي وضعت أمام الشاطي كي يتم ترصيصها لاحقا لحماية الساحل.

يلجأ مهندسو الشواطئ إلى هذه الصخور الطبيعية الواردة من الصحراء بدلا من الكتل الخرسانية لأن هذه الصخور المختارة بعناية تشبعت تماما بالمياه في المناخ الصحراوي القديم وبالتالي فإنها لن تمتص مياه البحر ولن تذوب بسهولة.

هذه الصخور طبيعية النشأة ستتعامل مع الأمواج والتيارات البحرية بطريقة أقرب للنموذج الطبيعي بدلا من الكتل الخرسانية ثلاثية القوائم أو رباعية الأضلاع المؤلفة من رمل وأسمنت وحديد مسلح.

لو أنك عرفت البحر والأمواج جيدا ستكتشف أن هذه العوامل البحرية أقرب إلى كائنات حية تفضل التعامل مع الكائنات الحية الطبيعية مثلها، ويستفزها جدا أن نلقمها كتلا خرسانية، فتثور ثائرتهم وتموج أمواجهم ويهجمون تباعا، فرادى وفي مجموعات، على الشاطئ أكثر وأكثر نحرا وتعرية. التعبير الأخير ليس صورة جمالية ولا بلاغة أدبية أو كتابة شاعرية بل حقيقة علمية.

هل يلجأ مهندسو الشواطئ إلى هذه الصخور لأسباب التغير المناخي التي ناقشناها في السابق والتي حذر فيها رئيس الوزراء البريطاني من اختفاء المدينة؟

هل يفعل المهندسون ذلك استجابة لتحذيرات الأمم المتحدة من أن مدينة الإسكندرية قد تختفي بسبب ارتفاع درجات الحرارة وذوبان مياه الجليد ومن ثم غمر الشواطئ منخفضة المنسوب ومن بينها شواطئ الإسكندرية؟

الإجابة هي قطعا: لا

بدأت مشكلة تراجع ساحل الإسكندرية على ثلاث مراحل: قبل 50 سنة، قبل 30 سنة، وقبل 10 سنوات.

فقبل 50 سنة ومع اكتمال مشروع السد العالي وبحيرة ناصر بدأت المشكلة الكبرى بتوقف مياه نهر النيل (وطميه ورواسبه) عن الوصول للبحر المتوسط.

كانت مياه ورواسب نهر النيل قبل السد تلقى في البحر فتصد الأمواج صدا طبيعيا وتحمي الدلتا من هجوم مياه البحر.

هجوم مياه البحر ظاهرة طبيعية ضمن صراع الإرادات والقوى، مثله مثل صراع الجيوبوليتيك: أية قوة تكتشف ضعفا في قوة أخرى تهجم عليها وتأخذ حصتها وتجور على ممتلكاتها.

صحيح أن الإسكندرية تقع غرب فرع رشيد ولم تكن تستفيد مباشرة من حماية السواحل لأن التيار البحري يسير من الغرب للشرق (من السلوم إلى العريش) لكن لا يمكن إنكار تأثر الإسكندرية ضمن توازن الصراع بين البحر والنهر.

وغنى عن البيان أن الإسكندرية تأثرت قبل قرون طويلة حين توقف الفرع الكانوبي الذي كان يخرج من فرع رشيد ويصب في الإسكندرية عند أبو قير، وتأثرت أيضا بضمور وإغلاق ترعة المحمودية في السنوات العشر الأخيرة التي كانت تصب غرب الإسكندرية عند منطقة المكس حاملة المياه والطمي كأنها أحد فروع النيل.

المرحلة الثانية وقعت قبل 30 سنة تقريبا حين بدأ مشروع ما يسمى المنتجعات السياحية في الساحل الشمالي الغربي مع ظهور قرى مراقيا وماربيلا والمنتزه ثم العملاق الأكبر “مارينا”.

لجأ العديد من قرى الساحل الشمالي (ويزيد عددها عن 120 قرية غرب الإسكندرية وصولا إلى العلمين) إلى إقامة حواجز خرسانية وتعديل بيئة الشواطئ طمعا في جلب مزيد من الرمال من البحر وتشكيل بحيرات ساحلية ومرافئ ليخوت السادة الأثرياء.

في عام 1995، خلال إعدادي لرسالة الماجستير عن هذا الساحل، كنت شاهد عيان على ما تفعله مارينا وغيرها من تغيير النظام البيئي في البحر المتوسط وتعريض ساحل الإسكندرية للنحر والتراجع، وذلك لأن التيار البحري القادم من الغرب من جهة السلوم كان يجلب الرواسب الرملية ويلقيها عند الإسكندرية فتحصل شواطئها على الحماية.

أما الآن فإن الأمواج تصل إلى الإسكندرية جائعة و”مسعورة” إذ سرقت منها القرى السياحية غربا كل ما معها من رمال، وبدلا من أن تلقي التيارات والأمواج الرواسب وتفيض كرما على شواطئ الإسكندرية إذ بها تريد أن تاكل الشواطئ لتسد جوعها الشره للرواسب.

قلنا إن الأمواج والتيارات مثل الكائنات الحية، تجوع وتشبع مثلنا، فلا تستغرب أنها تريد هنا أن تأكل عند الإسكندرية، ولو تركنا لها الفرصة ستلتهم كل الكورنيش وتتوغل في المدينة.

المرحلة الثالثة والأخيرة في تعرض ساحل الإسكندرية للخطر والتراجع بدأت منذ عشر سنوات، حين شهدت الإسكندرية نظاما رأسماليا استثماريا يفكر أولا وأخيرا في الربح وفي استدرار الأموال الضخمة من الأثرياء في المدينة ومن زوارها.

بدأ هذا النظام الرأسمالي في تشييد مئات المطاعم والكافيهات على الكورنيش.

ولأن خط الساحل محدود جدا وصغير جدا فإن النظام الرأسمالي لم يضع المطاعم والكافيهات إلى جوار بعضها بعضا في صف واحد بل خلق مجموعة من الحواجز الخرسانية داخل البحر في شكل زجزاج ZIGZAG أي في شكل أسنان المنشار، وبنى فوق أسنان المنشار الخرسانية هذه منشآته السياحية من مئات المطاعم والمقاه.

هذا النمط الرأسمالي يقوم على تزاوج بين هدفين: إقامة حواجز خرسانية لوقف هجوم الأمواج، واستثمار الموقع من جيوب الأثرياء، فنجان القهوة هنا يبلغ الخمسين جنيها ووجبة الفرد لا تقل عن 300 جنيها وبالتالي لم يعد مكان للفقراء بل لصفوة القوم وإغلاق كورنيش المدينة على المواطن العادي الذي لم يعد له “حق في المكان”.

تجمعت هذه العوامل السابقة لتضع ساحل الإسكندرية في مأزق كبير بتغيير هيئته وتعديل طبيعته، لا يمكن في هذا المأزق التشكيك في إمكانية غرق سواحل المدينة، ولا يمكن أن ننام مطمئنين بأن مدينتنا “محروسة” بفضل الله.

وسبب هذا القلق والانشغال أن المدينة غرقت من قبل فعلا، وأن المدينة ليست معزولة عن بقية النظام الإيكولوجي والنظام البيئي في ساحل المتوسط ككل: غربه وشرقه.

ها هو عداد الكلمات في الحاسوب يخبرني أنني أقترب من 1000 كلمة ولم أصل إلى طريقة العلاج، ولم أبين كيف يمكن أن تغرق الإسكندرية وكيف نحميها؟.

دعونا نكمل لاحقا بإذن الله!

الدكتور عاطف معتمد أستاذ الجغرافيا بكلية الآداب جامعة القاهرة

لمتابعة أخر الأخبار والتحليلات من إيكونومي بلس عبر واتس اب اضغط هنا

الأكثر مشاهدة

النفط يصل لأعلى مستوياته منذ شهر وسط توقعات بارتفاع الطلب

استقرت أسعار النفط اليوم الخميس لتقترب من أعلى مستوى في...

البنك الأهلي يستحوذ على 24% من رأسمال “هايد بارك” العقارية

استحوذ البنك الأهلي المصري على حصة البنك العقاري المصري العربي...

منطقة إعلانية