مقالات

الركود التضخمى وحلول جانب العرض

يتطلب خفض مخاطر الركود التضخمى تدابير موجهة من قِـبَـل صناع السياسات فى مختلف أنحاء العالم.. فى حقبة استثنائية تتسم بأزمات عالمية متداخلة.

تتطلع الأسواق دوما إلى المستقبل، ولهذا فإن مجرد الإعلان عن إمدادات قادمة فى المستقبل من شأنه أن يساعد فى خفض الأسعار وتوقعات التضخم.

بعد مرور أكثر من عامين بقليل منذ تسبب «كوفيد-19 « فى إحداث أعمق ركود عالمى منذ الحرب العالمية الثانية، تعود المخاطر لتحدق بالاقتصاد العالمى مرة أخرى.

هذه المرة، يواجه الاقتصاد العالمى التضخم المرتفع والنمو البطيء فى ذات الوقت، حتى لو تمكنا من تجنب الركود العالمى، فقد تستمر آلام الركود التضخمى لسنوات عديدة، وقد ينطوى هذا على عواقب مزعزعة لاستقرار الاقتصادات المنخفضة والمتوسطة الدخل ــ ما لم تتحقق زيادات كبيرة فى العرض.

فى خضم الحرب التى تدور فى أوكرانيا، وارتفاع التضخم وأسعار الفائدة، من المتوقع أن يتراجع النمو الاقتصادى عام 2022. وتعكس أحدث توقعات البنك الدولى، انخفاضا كبيرا فى التوقعات: فمن المتوقع أن يتباطأ النمو العالمى هذا العام إلى %2.9 من %5.7 فى عام 2021، ويعكس هذا أيضا تخفيضا بما يقرب من الثلث لتوقعات يناير 2022، التى بلغت %4.1 هذا العام.

كان القسم الأعظم من هذا الانخفاض فى التوقعات يرجع إلى الارتفاع الحاد فى أسعار الطاقة والغذاء، إلى جانب ارتباكات العرض والتجارة الناجمة عن الحرب فى أوكرانيا والتطبيع الضرورى لأسعار الفائدة الجارى الآن.

الواقع أن خطر استمرار التضخم الأعلى من المتوسط والنمو الأقل من المتوسط لسنوات عديدة ــ وهى ظاهرة غير مشهودة منذ سبعينيات القرن العشرين ــ ليس ضئيلا، خلال الفترة من 2021 إلى 2024، من المتوقع أن يتباطأ النمو العالمى بنحو 2.7 نقطة مئوية ــ أكثر من ضعف التباطؤ خلال الفترة من 1976 إلى 1979.

ومن المرجح أن يستمر النمو الضعيف طوال العقد بسبب ضعف الاستثمار فى أغلب مناطق العالم. ومع ارتفاع التضخم الآن إلى أعلى مستوياته منذ عدة عقود من الزمن فى العديد من البلدان، فضلا عن التوقعات ببطء توسع العرض، ينشأ خطر يتمثل فى بقاء معدل نمو الأسعار عند مستوى أعلى لفترة أطول من المتوقع حاليا.

علاوة على ذلك، بلغ الدين العام الخارجى فى الاقتصادات النامية مستويات غير مسبوقة اليوم. معظم هذا الدين مستحق لدائنين من القطاع الخاص، وقسم كبير منه ينطوى على أسعار فائدة متغيرة والتى يمكن أن ترتفع فجأة، ومع إحكام شروط التمويل العالمية وانخفاض قيمة العملات، تنتشر ضائقة الديون ــ التى كانت حكرا على الاقتصادات المنخفضة الدخل سابقا ــ إلى البلدان المتوسطة الدخل.
يمثل إلغاء التيسير النقدى فى الولايات المتحدة واقتصادات متقدمة أخرى، إلى جانب الزيادة اللاحقة فى تكاليف الاقتراض العالمية، رياحا معاكسة أخرى كبرى فى مواجهة العالم النامى، بالإضافة إلى هذا، على مدار العامين المقبلين، سيكون أغلب الدعم المالى المقدم فى عام 2020 لمكافحة الجائحة انتهى العمل به، وإن كانت مستويات الدين ستظل مرتفعة، ومع إزالة تدابير تيسير السياسات، سيكون من المهم تضييق فجوات التفاوت والسعى إلى تحقيق دخول أعلى للجميع باستخدام الأدوات المالية والنقدية الكفيلة بتعزيز سلاسل التوريد، والشركات الصغيرة، وعملية تخصيص رأس المال.
لكن الظروف الحالية تختلف أيضا عن السبعينيات فى عدة نواح مهمة. فقد أصبح الدولار، الذى كان ضعيفا للغاية فى السبعينيات، قويا الآن.
خلال الفترة 1973-1974 تضاعفت أسعار البترول بنحو أربعة أمثال، ثم تضاعفت خلال الفترة 1979-1980؛ اليوم، مع التعديل تبعا للتضخم، تعادل أسعار البترول ثلثى المستوى الذى كانت عليه فى عام 1980، والميزانيات العمومية للمؤسسات المالية الكبرى قوية فى عموم الأمر، فى حين كانت تشكل خطرا فى السبعينيات.
كما أصبحت الاقتصادات فى مختلف أنحاء العالم أكثر مرونة مما كانت عليه فى السبعينيات، مع قدر أقل من الجمود البنيوى المتعلق بالأجور وأسواق العمل، كما أصبح صناع السياسات فى وضع أفضل اليوم لصد رياح الركود التضخمى المعاكسة. كما تتمتع أطر السياسة النقدية بقدر أكبر من المصداقية: تعمل البنوك المركزية فى الاقتصادات المتقدمة والعديد من الاقتصادات النامية على حد سواء بموجب تفويضات واضحة بشأن استقرار الأسعار. وقد ساعد هذا، إلى جانب حقيقة مفادها أن التكنولوجيا ورؤوس الأموال الحالية لديها القدرة على توفير زيادات ضخمة فى العرض، فى تثبيت توقعات التضخم الطويلة الأجل.
سيتطلب خفض مخاطر الركود التضخمى تدابير موجهة من قِـبَـل صناع السياسات فى مختلف أنحاء العالم. فى حقبة استثنائية تتسم بأزمات عالمية متداخلة، يحتاج صناع السياسات فى كل مكان إلى تركيز جهودهم فى خمسة مجالات أساسية.
أولا، يتعين عليهم أن يعملوا على الحد من الضرر الذى يلحق بالأشخاص المتضررين من الحرب فى أوكرانيا. وسيتطلب هذا تنسيق الاستجابة للأزمة، بما فى ذلك تسليم مساعدات الطوارئ الغذائية، والطبية، والمالية إل المناطق التى مزقتها الحرب، وتقاسم أعباء سكن، ودعم، وربما إعادة توطين اللاجئين والنازحين داخليا.
ثانيا، يتعين على صناع السياسات أن يقاوموا الارتفاع الحاد فى أسعار البترول والغذاء. من الضرورى زيادة المعروض من السلع الغذائية الأساسية والطاقة.
تتطلع الأسواق دوما إلى المستقبل، ولهذا فإن مجرد الإعلان عن إمدادات قادمة فى المستقبل من شأنه أن يساعد فى خفض الأسعار وتوقعات التضخم، ينبغى لكل البلدان أن تعمل على دعم شبكات الأمان الاجتماعى وأن تتجنب فرض القيود على الصادرات والواردات، حيث تؤدى هذه القيود إلى تضخيم زيادات الأسعار.
ثالثا، هناك حاجة ملحة إلى تكثيف جهود تخفيف أعباء الديون. كانت نقاط الضعف المرتبطة بالديون حادة بالفعل فى البلدان المنخفضة الدخل حتى قبل اندلاع الجائحة. ومع انتشار ضائقة الديون إلى البلدان المتوسطة الدخل، ستنمو المخاطر التى تهدد الاقتصاد العالمى فى غياب عملية إغاثة سريعة وشاملة وضخمة.
رابعا: يتعين على المسئولين أن يعملوا على تعزيز الجاهزية الصحية والجهود المبذولة لاحتواء جائحة كوفيد- 19. ويجب أن يكون توسيع جهود التحصين فى البلدان المنخفضة الدخل، بما فى ذلك لقاحات كوفيد- 19، أولوية عالمية عالية.
خامسا، من الأهمية بمكان تسريع عملية التحول إلى مصادر الطاقة المنخفضة الكربون. وسيتطلب تقليل الاعتماد على الوقود الأحفورى زيادة الاستثمار فى شبكات الكهرباء، ومصادر الطاقة الأكثر نظافة، وتعزيز كفاءة الطاقة. ينبغى لصناع السياسات الوطنية أن يعكفوا على إنشاء أطر تنظيمية ذكية مناخيا، وتعديل هياكل الحوافز، وتعزيز الضوابط التنظيمية فى مجال استخدام الأراضى.
تعتمد استعادة الرخاء الطويل الأجل على استئناف النمو الأسرع فى ظل بيئة سياسات أكثر استقرارا وقائمة على القواعد.
ولا يخلو الأمر من سبب وجيه يجعلنا نتوقع تضاعف جهود إعادة بناء الاقتصاد الأوكرانى وإنعاش النمو العالمى بما فى ذلك تلك التى تبذلها مجموعة البنك الدولى، بمجرد توقف الحرب الدائرة فى أوكرانيا.
فى الوقت ذاته، يحب أن يحرص صناع السياسات على التخفيف من التهديدات الأخرى التى تواجه التنمية فى مختلف أنحاء العالم: ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة إلى عنان السماء، واستمرار ضغوط الركود التضخمى، وأعباء الديون المتزايدة الخطورة، واتساع فجوت التفاوت وتفاقم عدم الاستقرار، والمخاطر العديدة الناشئة عن تغير المناخ.

بقلم: ديفيد مالباس

رئيس مجموعة البنك الدولى

لمتابعة أخر الأخبار والتحليلات من إيكونومي بلس عبر واتس اب اضغط هنا

الأكثر مشاهدة

النفط يصل لأعلى مستوياته منذ شهر وسط توقعات بارتفاع الطلب

استقرت أسعار النفط اليوم الخميس لتقترب من أعلى مستوى في...

البنك الأهلي يستحوذ على 24% من رأسمال “هايد بارك” العقارية

استحوذ البنك الأهلي المصري على حصة البنك العقاري المصري العربي...

منطقة إعلانية