يواجه العالم صدمات اقتصادية مرة واحدة كل بضعة أجيال، لكنها تتسبب فى تغييرات دائمة وبعيدة المدى، ومنها جائحة «كورونا».
ووفقاً لقياسات الناتج المحلى الإجمالى، يتجه اقتصاد العالم نحو التعافى من الركود الذى شهده سكان الأرض البالغ عددهم 7.7 مليار شخص، ويمكن لتوافر اللقاحات المضادة لـ«كورونا» تسريع هذا الانتعاش فى عام 2021، لكن تداعيات الوباء الأخرى يمكن أن تشكل النمو العالمى لسنوات قادمة.
ويمكن تمييز بعض هذه التداعيات بالفعل، مثل تسارع استيلاء الروبوتات على وظائف المصانع والخدمات، بينما سيبقى العمال ذوو الياقات البيضاء فى المنزل لفترة أطول، وسيكون هناك المزيد من التفاوت بين البلدان وداخلها، وستلعب الحكومات دوراً أكبر فى حياة المواطنين من خلال إنفاق مزيد من الأموال.
وسلطت وكالة أنباء «بلومبرج» الضوء على بعض التحولات التى يمكن أن يشهدها العالم فى الفترة المقبلة:
العقبات:
لقد عادت الحكومة الضخمة إلى الظهور، حيث تمت إعادة كتابة العقد الاجتماعى بين المجتمع والدولة بسرعة، وأصبح من الشائع بالنسبة للسلطات تتبع الأماكن التى ذهب إليها الأشخاص ومن التقوا ودفع أجور العاملين عندما لا يتمكن أصحاب العمل من سدادها، وفى الدول، التى سادت فيها أفكار السوق الحرة لعقود، كان لا بد من إصلاح شبكات الأمان الاجتماعى.
ولدفع ثمن هذه التدخلات، واجهت حكومات العالم عجزاً فى الموازنة بلغ 11 تريليون دولار العام الماضى، بحسب شركة الاستشارات الأمريكية «ماكينزى».
وهناك بالفعل مناقشات حول المدة التى يمكن أن يستمر فيها مثل هذا الإنفاق ومتى يتعين على دافعى الضرائب البدء فى سداد الفاتورة.
وفى الاقتصادات المتقدمة على الأقل، لا تشير أسعار الفائدة شديدة الانخفاض والأسواق المالية غير المنضبطة إلى تفشى أزمة فى الأمد القريب.
وعلى المدى الطويل، تؤدى إعادة التفكير بشكل كبير فى الاقتصاد إلى تغيير الأفكار بشأن الدين العام.
الأموال الأكثر سهولة:
عادت البنوك المركزية إلى طبع النقود، وسجلت أسعار الفائدة مستويات قياسية جديدة، كما أن محافظى البنوك المركزية كثفوا من حجم التيسير الكمى ووسعوا نطاقه ليشمل ديون الشركات وكذلك ديون الحكومة.
وخلقت كل هذه التدخلات النقدية بعضاً من أسهل الظروف المالية فى التاريخ وأطلقت العنان لجنون الاستثمار المضارب، الذى ترك الكثير من المحللين قلقين بشأن المخاطر الأخلاقية فى المستقبل، لكن سيكون من الصعب عكس سياسات البنك المركزى، خاصة إذا ظلت أسواق العمل ممزقة واستمرت الشركات فى الإدخار.
وذكرت ورقة نُشرت العام الماضى أن التاريخ يظهر أن الأوبئة تخفض أسعار الفائدة لفترة طويلة، ووجدت أنه بعد ربع قرن من انتشار الوباء كانت المعدلات أقل بنحو %1.5 مما كانت ستصبح عليه لولا ذلك الوباء.
الديون وشركات الزومبى:
قدمت الحكومات الائتمان باعتباره شريان الحياة أثناء الوباء، وهو الأمر الذى استغلته الشركات، وبالتالى كانت أحد النتائج حدوث طفرة فى مستويات ديون الشركات فى مختلف أنحاء العالم المتقدم.
وبحسب حسابات بنك التسويات الدولية، اقترضت الشركات غير المالية ما يصل إلى 3.36 تريليون دولار فى النصف الأول من عام 2020.
ومع انخفاض الإيرادات فى العديد من الصناعات بسبب عمليات الإغلاق أو حذر المستهلك، ومع تزايد حجم الخسائر فى القوائم المالية للشركات، فقد أصبحت الظروف مواتية لحدوث أزمة ملاءة كبرى بالنسبة الشركات.
ويرى البعض أيضاً خطراً يتمثل فى تقديم قدر أكبر مما ينبغى من الدعم للشركات، فى ظل وجود قدر ضئيل للغاية من التمييز لمن يحصل عليه، وبالتالى تعتبر هذه الوصفة مثالية لخلق «شركات زومبى» لا يمكنها الاستمرار فى السوق الحرة ولا يمكن أن تبقى على قيد الحياة إلا من خلال مساعدة الدولة، الأمر الذى يجعل الاقتصاد بأكمله أقل إنتاجية.
انقسامات كبيرة:
يمكن أن تبدو المناقشة الدائرة حول التحفيز وكأنها رفاهية من العالم الأول، خاصة أن الدول الفقيرة تفتقر إلى الموارد اللازمة لحماية الوظائف والشركات أو الاستثمار فى اللقاحات، كما فعلت أقرانها الأكثر ثراء، كما أن تلك الدول سيتعين عليها شد الأحزمة عاجلاً أو المجازفة بمواجهة أزمات انخفاض العملة وهروب رأس المال.
ويحذر البنك الدولى من أن هذا الوباء يؤدى إلى ظهور جيل جديد من الفقراء واضطرابات الديون، فى حين أن صندوق النقد الدولى يقول إن الدول النامية تجازف بالتأخر لمدة عقد من الزمان.
ولقد اتخذت الحكومات الدائنة فى مجموعة العشرين بعض الخطوات للتخفيف من محنة أفقر المقترضين، لكنها تعرضت لانتقادات من جانب جماعات الإغاثة نظراً إلى تقديمها تخفيفاً محدوداً لأعباء الديون والفشل فى اجتذاب المستثمرين من القطاع الخاص إلى خطة تخفيف الديون.
التعافى على شكل حرف K:
يميل العمل منخفض الأجر فى قطاع الخدمات، الذى يتميز بوجود اتصال مباشر أكثر بالعملاء، إلى الاختفاء أولاً مع إغلاق الاقتصادات، ولكن الأسواق المالية، التى يمتلك فيها الأثرياء أغلب الأصول، عادت إلى الارتفاع بسرعة أكبر بكثير من عودة أسواق العمل، وبالتالى كانت النتيجة تعافياً اقتصادياً على شكل حرف K.
وتجدر الإشارة إلى أن تفشى الوباء أدى إلى توسيع الفجوات فى الدخل أو الثروة عبر أخطاء الطبقات المجتمعية والعرق والجنس، فقد تعرضت النساء لضربة قاسية على نحو غير متناسب، ويرجع ذلك جزئياً إلى أنهن أكثر ميلاً إلى العمل فى الصناعات التى واجهت صعوبات، كما أن هؤلاء النساء اضطررن إلى تحمل قدر كبير من الأعباء الإضافية لرعاية الأطفال مع إغلاق المدارس.
وفى كندا، تراجعت مشاركة النساء فى سوق العمل إلى أدنى مستوى لها منذ منتصف ثمانينيات القرن العشرين.
صعود الروبوتات:
أثار «كوفيد19-» مخاوف جديدة حول الاتصال البدنى المباشر فى الصناعات التى يصعب فيها تطبيق تدابير التباعد الاجتماعى، مثل البيع بالتجزئة أو الضيافة أو التخزين، ولكن هذه المعضلة يمكن حلها من خلال استبدال البشر بالروبوتات.
وتشير البحوث إلى أن الأتمتة غالبا ما تسهم فى تحقيق مزيد من التقدم أثناء فترات الركود الاقتصادى، لذا وفى ظل هذا الوباء العالمى، سرعت الشركات العمل على الآلات التى تستطيع تسجيل دخول النزلاء إلى الفنادق أو تقطع مكونات السلطات فى المطاعم أو تُحصل الرسوم فى أكشاك البيع، كما أن عمليات التسوق انتقلت لتصبح قادراً على إتمامها عبر شبكات الإنترنت.
ويذكر أن هذه الإبداعات من شأنها جعل الاقتصاد أكثر إنتاجية، لكنها تعنى أيضاً عدم وجود بعض الوظائف للبشر بمجرد أن تكون فكرة العودة إلى العمل آمنة تماماً.
وكلما طالت فترة بقاء الناس عاطلين عن العمل، زادت إمكانية ضمور مهاراتهم، وهو ما يطلق عليه خبراء الاقتصاد اسم «التخلف».
العمل من المنزل:
فى أعلى سلم الدخل، أصبحت المكاتب البعيدة فجأة هى القاعدة الرئيسية للشركات، فقد وجدت إحدى الدراسات أن الأشخاص الذين يعملون فى المنزل ساهموا فى توليد ثلثى الناتج المحلى الإجمالى للولايات المتحدة فى شهر مايو.
وتجدر الإشارة إلى أن شركات عديدة طلبت من موظفيها الابتعاد عن المكتب حتى عام 2021، وأشار البعض إلى أنهم سيجعلون العمل المرن بشكل دائم.
وفى الغالب، استطاعت فكرة العمل من المنزل اجتياز اختبار التكنولوجيا، ما أتاح أمام أصحاب العمل والموظفين خيارات جديدة، كما أن فكرة العمل من المنزل تعتبر نعمة بالنسبة لأولئك الذين يبنون منصات جديدة، فقد قفزت نسبة المشاركة فى منصة مؤتمرات الفيديو «زووم» بأكثر من 6 أضعاف على مدار عام 2020.
كما أن خيار العمل عن بُعد، إلى جانب الخوف من الوباء، أدى إلى اندفاع سكان المدن نحو الضواحى أو الريف، وفى بعض الدول تسببت تلك الخطوة فى ارتفاع أسعار العقارات فى المناطق الريفية.
لن نذهب إلى أى مكان:
توقفت بعض أنواع السفر، وتراجعت السياحة العالمية بنسبة 72% فى عام 2020 حتى شهر أكتوبر، بحسب ما ذكرته الأمم المتحدة.
وتتوقع شركة الاستشارات الإدارية الأمريكية «ماكينزى» أن ربع رحلات العمل قد تختفى إلى الأبد مع تحول إمكانية عقد الاجتماعات عبر شبكات الإنترنت.
ومع اختفاء العطلات وإلغاء الأحداث الجماهيرية مثل المهرجانات والحفلات الموسيقية، تعطل الاتجاه السائد بين المستهلكين لتفضيل التجارب على البضائع، وحتى إذا تم استئناف الأنشطة من جديد لن يكون لها نفس الوقع على نفوس المستهلكين.
وفيما يخص السفر، قد يتعين على المسافرين الحصول على شهادات صحية إلزامية والمرور عبر أنواع جديدة من إجراءات الأمان للتمكن من السفر، فعلى سبيل المثال طورت شركة «تشاينا تك جلوبال»، ومقرها هونج كونج، مقصورة تعقيم متنقلة تحاول بيعها للمطارات.
عولمة مختلفة:
عندما أغلقت المصانع الصينية أبوابها فى بداية تفشى وباء «كوفيد19-»، أرسلت هذه الخطوة موجة من الصدمات عبر سلاسل التوريد فى كل مكان، وجعلت الشركات والحكومات تعيد النظر فى اعتمادها على الصين التى تعتبر قوة تصنيع عالمية.
وعلى سبيل المثال، يمكن النظر إلى شركة موقع «إن إيه – كيه دى دوت كوم» السويدية التى تعتبر جزءاً من صناعة التجزئة المزدهرة للأزياء السريعة والتى تتحرك وفقاً لاتجاهات وسائل الإعلام الاجتماعية بدلاً من المواسم التقليدية، والتى قامت بتحويل بعض عمليات الإنتاج من الصين إلى تركيا بعد توقف عمليات التسليم فى عام 2020، ويعتبر هذا المثال دليلاً على تعديل العولمة دون أى تراجع.
وفى مناطق أخرى، قد يشجع هذا الوباء الساسة الذين يزعمون أنه من الخطر الاعتماد على واردات السلع ذات الأهمية البالغة للأمن الوطنى، حيث تبين أنها كانت تضم أجهزة التنفس الاصطناعى والأقنعة خلال عام 2020.
التحول نحو السياسات الخضراء:
قبل الوباء، كان دعاة حماية البيئة يتأملون فى الأساس فى نظريات ذروة البترول، خاصة أن صعود المركبات الكهربائية يمكن أن يؤدى بشكل دائم إلى التأثير على الطلب العالمى على واحد من أكثر أشكال الوقود الأحفورى تأثيراً على البيئة، لكن عندما شهد عام 2020 بقاء الطائرات على الأرض دون تحليق وبقاء الناس فى منازلهم، شعرت شركات البترول الكبرى، مثل «بريتيش بتروليوم»، بتهديد حقيقى من العالم الذى أصبح جاداً بشأن التدابير المكافحة للتغيرات المناخية.
وأعلنت الحكومات، من كاليفورنيا إلى المملكة المتحدة، عن خطط لحظر بيع السيارات الجديدة العاملة بالبنزين والديزل بحلول عام 2035، كما أن الرئيس الأمريكى المنتخب حديثا «جو بايدن» وعد بانضمام الولايات المتحدة إلى اتفاقية باريس للمناخ.
لمتابعة أخر الأخبار والتحليلات من إيكونومي بلس عبر واتس اب اضغط هنا