استغرق الأمر وقتاً، لكنه يحدث أخيراً، إذ تعمل البيانات الاقتصادية الأمريكية الصادرة مؤخراً على إدخال فكرة “التضخم المستحكم” بقوة أكبر في المناقشات الاقتصادية.
يأتي هذا بعد أن كان كثير من الناس- ليس فقط المشاركون في السوق وصناع السياسات، بل أيضاً بعض الاقتصاديين- يميلون إلى إعلان النصر قبل الأوان في المعركة المهمة ضد الزيادات المدمرة في الأسعار.
مع ذلك، المناقشات المنبثقة عن ذلك يجب أن تتجاوز الديناميكيات المباشرة لتشكيل الأسعار، وأن تمتد لتشمل القضايا الهيكلية، رغم صعوبتها.
كان الارتفاع الأولي في التضخم مدفوعاً، أولاً بارتفاع أسعار الغذاء والطاقة، وبالتالي زيادات واسعة في الأسعار في قطاع البضائع ككل.
ارتفعت أسعار العديد من الأشياء، منها السيارات المستعملة، وبالتالي مهدت الطريق ليس للاعتدال فحسب، بل لانخفاض صريح في أسعارها، ونتيجة لذلك يندفع كثيرون لتبني الانكماش المستمر والمنظم بوصفه الموضوع المهيمن في 2023.
بدت هذه الصورة المطمئنة مدعومة بصدور بيانات يناير حول التضخم والنشاط الاقتصادي، ما أدى إلى تأجيج سردية “التضخم النقي” وإنعاش بعض أعضاء فريق التضخم العابر الذين كانوا صاخبين في 2021 قبل أن يشعروا بالتواضع بسبب استمرار التضخم.
لقد ذكر جيروم باول، رئيس الاحتياطي الفيدرالي، الانكماش 11 مرة في مؤتمره الصحافي الذي أعقب إعلان السياسة في الأول من فبراير، ووجه الأسواق إلى محضر اجتماع الاحتياطي الفيدرالي المقبل للحصول على تفاصيل حول تحول حمائمي محتمل في السياسة.
لم يحتسب المستثمرون ذروة منخفضة لسياسة أسعار الفائدة في هذه الدورة فحسب، بل أيضاً تخفيضات في النصف الثاني من العام، وبالتالي ارتفعت أسعار الأسهم والسندات وبيتكوين.
أشار الكاتب محمد العريان في مقال على صحيفة “فاينانشيال تايمز”، إلى أن الاندفاع نحو سرد مطمئن عكس مزيجاً من الفخاخ المعرفية وسيولة اقتصادية غير عادية.
مع ذلك، لم يتمكن من الصمود في وجه مفاجآت البيانات التصاعدية اللاحقة الخاصة بالتضخم والوظائف والنشاط، وكذلك لم يتمكن من الصمود أمام إصدار محضر اجتماع الفيدرالي الذي لم يتضمن معلومات كافية، وبالكاد أي شيء بشأن التحول والانكماش، وتراجعت الأسهم بينما ارتفعت عوائد السندات.
مع ارتفاع مقاييس التضخم المتوقع أيضاً، يضطر مسؤولو الاحتياطي الفيدرالي للعودة إلى نهج أكثر حذراً حتى إن بعضهم يقترح عكس التحول الهبوطي في زيادات أسعار الفائدة، والذي حدث في الأول من فبراير، من 0.50% إلى 0.25%.
يوجد الآن اعتراف متزايد بأن هناك حداً لانكماش أسعار البضائع وأن زيادات الأسعار في قطاع الخدمات قد تثبت أنها عنيدة للغاية، وهذا الفهم الأفضل لديناميكيات التضخم على المدى القصير خطوة ضرورية لتجنب تخلف الاحتياطي الفيدرالي كثيراً للمرة الثالثة خلال عامين، وهو نمط يغذي الخطر المشترك المتمثل في التضخم المرتفع باستمرار والمزعزع للاستقرار والركود وفقدان الوظائف واتساع عدم المساواة في الدخل والفرص.
لكن هذا ليس كافياً، إذ يجب أن يكون مصحوباً بهيكل سياسة أقوى وتطور مثمر في نقاش السياسات بعيداً عن كون الاحتياطي الفيدرالي “اللاعب الوحيد في المدينة”، الذي يطارد هدف تضخم بعيد المنال وعفا عليه الزمن بشكل متزايد.
وفي رأيي، التوصيف الأساسي متوسط الأجل لاقتصاد الولايات المتحدة تحول من اقتصاد يتسم بضعف الطلب الإجمالي إلى اقتصاد يتسم بنقص العرض الكلي.
نعم، لقد أسهم الوباء في حدوث ذلك، لكن ثمة أشياء كثيرة أخرى أيضاً.
بعض القوى الدافعة تشمل التحول الأخضر المتأخر في مجال الطاقة ومجالات أخرى والعولمة المتغيرة والسعي متعدد الأعوام لتعزيز مرونة سلسلة التوريد وسوق العمل التي تكافح لملء فائض قياسي في الوظائف الشاغرة.
أولئك الذين يتفقون على أن جانب العرض في الاقتصادين المحلي والعالمي هو الأكثر تحديداً للتضخم والنمو والنتائج الاجتماعية يواجهون بشكل مباشر قضيتين صعبتين، الأولى، ما يجب فعله بشأن مستوى التضخم المستهدف من الاحتياطي الفيدرالي، وهو مستوى منخفض للغاية في مثل هذا العالم، لكن يصعب تعديله لأن أهم بنك مركزي في العالم قوض مصداقيته فعليا.
والآخر، كيفية التوصل إلى عملية دمج أفضل لرؤى هيئات صنع السياسة، خارج بنك الاحتياطي الفيدرالي، لخوض معركة منسقة ضد التضخم.
ينبغي للكونجرس الأمريكي أن يساعد، أولاً من خلال تعزيز مساءلة الاحتياطي الفيدرالي ومطالبته بتحديث إطار سياسته، إضافة إلى الاقتداء ببنك إنجلترا وإدخال وجهات نظر خارجية بطريقة هيكلية في العملية الخاصة بصياغة السياسات، وثانياً، من خلال صياغة نهج أكثر شمولا لتخفيف قيود جانب العرض.
التطورات الأخيرة في سياسة الولايات المتحدة بشأن قضايا تحول الطاقة توفر أساساً للارتكاز عليه لمستقبل من النمو المرتفع والشامل والمستدام، بجانب الاستقرار المالي الحقيقي.
لنأمل أن تتمكن الإدارة من تأمين عدد كاف من أعضاء الحزبين في الكونجرس للاستفادة من هذه الفرصة المهمة.
لمتابعة أخر الأخبار والتحليلات من إيكونومي بلس عبر واتس اب اضغط هنا