قبل عقد، كانت وزارات المالية حول العالم تعانى من حمى التقشف، وبذلت الحكومات قصارى جهدها لتقليص عجز الميزانية، حتى مع ارتفاع معدلات البطالة وضعف النمو الاقتصادى، لكن الأمور حاليًا باتت مختلفة جدًا.
وفى مختلف دول الغرب، أصبحت معظم الاقتصادات فى وضع أفضل، فالناس لديهم وظائف، والشركات سجلت نموًا قويًا فى أرباحها، لكن الحكومات لا تزال تنفق أكثر بكثير مما تجنى.
ليس هناك من يسرف أكثر من حكومة أمريكا، ويُتوقع أن يعانى أكبر اقتصاد فى العالم من عجزًا فى الميزانية هذا العام (حيث يتجاوز الإنفاق الضرائب) بما يزيد عن %7 من الناتج المحلى الإجمالى، وهو مستوى لم يسبق له مثيل بعيدًا عن فترات الركود والحروب.
لكنها ليست الدولة الوحيدة المسرفة، إذ تعانى إستونيا وفنلندا، بلدان شمال أوروبا الشمالية المتقشفة عادةً، من عجز كبير فى الميزانية.
و العام الماضى، كان العجز فى إيطاليا واسعًا كما كان فى العام المالى 2010-2011، فى أعقاب الأزمة المالية العالمية، ونما العجز فى فرنسا إلى %5.5 من الناتج المحلى الإجمالى، وهو أعلى بكثير من التوقعات.
كانت بعض الدول أكثر تحفظًا، إذ حققت قبرص فائضًا خلال العام الماضى، كما تبدو اليونان والبرتغال، اللتان كانتا تقتربان من موازنة ميزانيتيهما، كنموذج للاستقامة المالية حتى ولو كانتا لا تزالان تعانيان من ديون هائلة، لكن الاتجاه العام واضح.
حللت مجلة «ذا إيكونوميست» البريطانية بيانات 35 دولة غنية، لتجد أن الدولة المتوسطة فى العينة حققت فائضًا فى الميزانية فى الفترة 2017-2019، لكنها سجلت عجزًا فى الميزانية يقترب من %2.5 من الناتج المحلى الإجمالى العام الماضى.
كما اتسعت بشكل حاد مقاييس العجز «الأولى» (باستثناء مدفوعات الفائدة) والعجز «الهيكلى» (الذى يتجاهل الدورة الاقتصادية).
هناك عاملان يفسران هذا الإسراف، الأول يتعلق بالضرائب، حيث تراجعت الإيرادات الضريبية فى جميع أنحاء العالم الغنى بشكل كبير، فيما انخفضت إيرادات ضرائب الدخل المستقطعة من الأجور فى أمريكا بشكل طفيف العام الماضى.
وفى الوقت نفسه، انخفضت «ضرائب الدخل غير المقتطعة»، بما فيها الأرباح الرأسمالية، بمقدار الربع، فقد أصبحت ضريبة الأرباح الرأسمالية فى بريطانيا أقل بنسبة %11 عن أعلى مستوياتها الأخيرة.
يعانى رجال الضرائب بسبب اضطرابات السوق فى أواخر 2022 وأوائل 2023، فقد أقالت شركات التكنولوجيا، التى تدفع أجور كبيرة، موظفيها، مما يؤدى إلى تقليص إيرادات ضرائب الدخل.
ومع انخفاض أسعار الأسهم، أصبح من الصعب على الأسر والمستثمرين بيع الأسهم لتحقيق الربح، مما أدى إلى تقليص مجموع الأرباح الرأسمالية.
العامل الثانى هو الإنفاق الحكومى، فقد خفضت الحكومات الإنفاق، لكن ليس بشكل كامل فى أعقاب السياسة المالية «مهما كانت التكلفة» خلال الجائحة.
فى أستراليا، ربما يستمر كبار السن داخل دور الرعاية، فى تلقى المساعدة المالية أثناء تفشى الوباء.
وفى منتصف 2023، أنهت ألمانيا خطط حماية الوظائف بشكل كامل والتى نُفذت أثناء الوباء. فيما لا تزال أمريكا تدفع تعويضات ضريبية كبيرة للشركات الصغيرة التى أبقت الناس فى وظائفها خلال فترات الإغلاق.
أما فى إيطاليا، فانتشر مشروع أُعد فى 2020 لتشجيع أصحاب المنازل على تحويل منازلهم إلى بيئة أكثر صديقة للبيئة، حيث وصلت قيمة الدعم الحكومى حتى الآن إلى 200 مليار يورو (أو %10 من الناتج المحلى الإجمالي).
أصبح الساسة أيضًا أكثر استعدادًا للتدخل وإنفاق الأموال لتصحيح الأخطاء المتصورة.
وبعد نشوب الحرب بين روسيا وأوكرانيا وارتفاع أسعار الطاقة، خصصت حكومات أوروبا نحو %4 من الناتج المحلى الإجمالى لحماية الأسر والشركات من التأثيرات.
وتنفق الآن دول قليلة، منها بولندا ودول البلطيق، مبالغ كبيرة على الأسلحة والقوات العسكرية، كما يريد الرئيس الأمريكى جو بايدن إعفاء أكبر قدر ممكن من ديون الطلاب قبل الانتخابات الرئاسية الأمريكية فى نوفمبر.
إلى متى يمكن أن يستمر مثل هذا النمط من الإنفاق؟
للوهلة الأولى، يبدو أن هذا الإنفاق سيستمر لفترة من الوقت، فقد شهدت الأسواق نشاطًا مفرطًا، مما سيعزز الإيرادات الضريبية.
كما أن قدرة أى حكومة على تحمل الديون لا تتغير فقط بسبب ما يحدث لعجز الميزانية، وهذا يعد أيضًا نتاج الدين العام الإجمالى والنمو الاقتصادى والتضخم وأسعار الفائدة.
ومنذ نهاية الوباء، كان التضخم مرتفعًا وكان النمو قويًا.
وعلى الرغم من ارتفاع أسعار الفائدة، فإنها لا تزال منخفضة إلى حد ما وفقًا للمعايير التاريخية.
هذه الظروف تضع الساسة فى وضع مالى جيد، فالمجلة البريطانية تحسب أنه فى الفترة 2022-2023، كان البلد الغنى المتوسط قادرًا على إدارة عجز أولى قدره %2 من الناتج المحلى الإجمالى مع الاستمرار فى خفض نسبة الدين العام إلى الناتج المحلى الإجمالى.
وكان يمكن لقيمة الدين الاسمية الارتفاع، لكن بفضل التضخم كان حجم الاقتصاد ليرتفع بنسبة أكبر، فيما واجهت قلة من البلدان بيئة أكثر ملاءمة.
كما انخفضت نسبة الدين إلى الناتج المحلى الإجمالى فى إيطاليا بنحو 10 نقاط مئوية من ذروتها فى 2021، رغم سياستها المالية الفضفاضة، وتراجعت النسبة فى فرنسا أيضًا.
وشهدت اليونان، التى تجمع بين ظروف اقتصادية مواتية وسياسة مالية صارمة، تهاوى نسبة الدين للناتج المحلى الإجمالى بمقدار 50 نقطة مئوية.
لكن الوضع تغير الآن، فأسعار الفائدة التى تواجه الحكومات لم تنخفض بعد، حتى مع تراجع النمو الاقتصادى والتضخم، وهذا يجعل الحسابات المالية أكثر صعوبة بالفعل.
ولا غرابة أن الحديث عن ضبط الأوضاع المالية أصبح أعلى صوتًا فى الآونة الأخيرة، فالمنطق المالى لا يرحم.
وسواء شاء الساسة ذلك أم لا، ينبغى أن ينتهى عصر الحكومات التى تنفق بلا حدود.
لمتابعة أخر الأخبار والتحليلات من إيكونومي بلس عبر واتس اب اضغط هنا