بدأ المستثمرون والمراقبون الاقتصاديون، يطرحون السؤال نفسه الذى عرضته فى مقال لى نشر منذ 18 عاماً أواخر 2001 بعنوان «من ضيع الأرجنتين؟».
وكانت الدولة تمر بحالة إلقاء لوم متزايدة وعلى وشك التعثر فى التزامات ديونها، وتقع فى ركود عميق، وتعانى من ضرر دائم لمصداقيتها الدولية، وهذه المرة عاد نفس الخصوم للعب دور الضحية والمتهم ولكن انضم لهم آخرون دوليون ومحليون، ولكهم يكررون تراجيديا لا مفر منها.
ووقعت الأرجنتين مجدداً فى أزمة بسبب نفس السبب البسيط الذى لم يتغير بالقدر الكافى خلال العقد الماضى، وبالتالى، ظلت الأسس الاقتصادية والمالية فى الدولة هشة أمام أى صدمات داخلية أو خارجية.
ورغم أنها التزمت ببرنامج إصلاح طموح، فقد قامت السلطات الاقتصادية والمالية فى الأرجنتين بأخطاء كثيرة كان يمكن تجنبها، وتم تطبيق الانضباط المالى والإصلاحات الهيكلية بشكل متفاوت، وبدد البنك المركزى مصداقيته فى اللحظات الحاسمة.
وللدخول فى صلب الموضوع، استسلمت السلطات الأرجنتينة إلى نفس الإغراءات التى استسلمت لها سابقاتها، ففى محاولة للتعويض عن التحسن الأبطأ من المتوقع فى القدرة الإنتاجية المحلية، سمحوا بالتحمل المفرط للديون المقومة بالعملات الأجنبية، وبذلك فاقموا ما يطلق عليه الاقتصاديون «الإثم الأصيل» وهو عدم تطابق عملة كبير بين الأصول والالتزامات، وكذلك بين الإيرادات وخدمة الديون.
والأسوأ من ذلك أن حملة تلك الديون لم يكونوا من مستثمرى الأسواق الناشئة المخضرمين وإنما «المستثمرين المؤقتين» الذين يسعون لعائدات أعلى من تلك المتاحة فى أسواقهم المحلية، وهؤلاء ينقصهم المعرفة الضرورية بفئة الأصول التى يحملونها، وبالتالى يساهمون فى التقلبات الحادة بالأسعار سواء بالارتفاع أو الانخفاض.
واشترى المقرضون بشراهة كل الديون التى تصدرها الدولة أو شركاتها ولم يردعهم تاريخ الأرجنتين الذى يتسم بالتقلبات المزمنة وسلاسل نقص السيولة، بما فى ذلك ثمانى حالات تعثر سابقة.
ومن بين السندات التى تدافع المستثمرون على شرائها، بل وكانت الطلبات عليها أعلى من المعروض هى السندات لأجل 100 عام بقيمة 2.7 مليار دولار بفائدة %7.9 فقط، ما تسبب فى انخفاض العائد على الديون الأرجنتينية إلى مستوى أقل مما تضمنه الأحوال الاقتصادية والمالية والسيولة، وهو ما شجع المؤسسات الأرجنتينية على إصدار المزيد من السندات رغم ضعف الأسس الاقتصادية.
وساعدت السياسات النقدية الفضفاضة وأسعار الفائدة شديدة الانخفاض والسلبية فى حالة البنك المركزى الأوروبى وبرامج التيسير الكمى فى الاقتصادات المتقدمة على بحث المستثمرين عن العائدات الأعلى، وأصبحت البنوك المركزية ذات الأهمية النظامية «اليابانى والأوروبى والفيدرالى» أحدث لاعبين فى لعبة إلقاء اللوم القديمة فى الأرجنتين.
وعلاوة على ذلك، اعتاد المستثمرون بسبب سنوات الدعم القوى من البنوك المركزية لأسواق الأصول على توقع سيولة وفيرة وموثوقة ما يعوض عن جميع أنواع ضعف الجدارة الائتمانية لدولة فردية، وازدادت هذه الظاهرة حدة بسبب انتشار أساليب الاستثمار السلبى.
وهناك أيضاً صندوق النقد الدولى، الذى تدخل مجدداً لمساعدة الأرجنتين عندما أثارت الأخطاء السياسية غضب المستثمرين فى 2018، وحتى الآن، تلقت الأرجنتين 44 مليار دولار بموجب أكبر تمويل على الإطلاق يقدمه الصندوق، ومع ذلك، ومنذ اليوم الأول، تعرض برنامج الصندوق للانتقاد بسبب افتراضاته لتوقعات النمو ومساره للاستقرار المالى على المدى البعيد، وأدت نفس الأسباب إلى إفشال مجهودات صندوق النقد الدولى سابقاً تجاه الأرجنتين، خاصة الفوضى السابقة لتعثرها فى 2001.
وكما هو الحال فى رواية أجاثا كريستى «جريمة فى قطار الشرق السريع»، فإن الجميع لديه يد فى المعضلة الاقتصادية والمالية الحالية فى الأرجنتين، وجميعهم ضحايا أيضاً، وعانوا من ضرر بسمعتهم وفى بعض الحالات خسائر مادية، ولكن يتضاءل كل ذلك مقارنة بما سوف يواجهه الشعب الأرجنتينى إذا لم تتحرك حكومته سريعاً بالتعاون مع المقرضين من القطاع الخاص وصندوق النقد الدولى لوقف التدهور الاقتصادى والمالى.
وبغض النظر عمن يفوز فى الانتخابات الرئاسية الشهر المقبل، ينبغى أن ترفض الأرجنتين فكرة أن خيارها الوحيد هو قبول أو رفض جميع شروط صندوق النقد والمقرضين الخارجيين، ومثل البرازيل تحت رئاسة، لويس ايناسيو لولا دا سيلفا، فى 2002، تحتاج الأرجنتين اختيار مسار ثالث من خلال التوصل لتعديلات نابعة من الوطن وبرنامج إصلاح يركز على حماية الشرائح الأكثر تضرراً من السكان، ومع الدعم الكافى من الدوائر الانتخابية المحلية، سوف يقدم هذا البرنامج مسار ذو حوافز للأرجنتين للسعى وراء تعافيها بالتعاون مع صندوق النقد والمقرضين.
وبالنظر إلى ركود الاقتصاد العالمى وازدياد مخاطر التقلبات المالية العالمية، لم يعد هناك وقت لإهداره، وكل شخص لديه مصلحة فى الأرجنتين لديه دور ليلعبه لمنع تكرر الكساد والتعثر غير المنظم فى أوائل الألفينات، ولن يكون إدارة تعافى نابع محلياً سهلاً ولكنه قابل للتحقيق وأفضل بكثير من البدائل.
بقلم: محمد العريان
لمتابعة أخر الأخبار والتحليلات من إيكونومي بلس عبر واتس اب اضغط هنا