منذ فترة، وأنا أتابع التوقعات السنوية للبنوك الكبرى للأسواق العالمية والناشئة، وبشكل عام جميعهم يبيعون آفاقاً حميدة، مثل أن الهدوء فى الحرب التجارية سيعطى دفعة بسيطة للنمو العالمى، ولكنها ليست كافية لمنع البنوك المركزية فى الأسواق المتقدمة عن مواصلة سياسات السيولة الميسرة.
وأيضاً.. مثل أن التوترات السياسية فى الشرق الأوسط ستكون تحت السيطرة، ولكنها ستجعل أسعار البترول فى منطقة محببة بالنسبة للمستهلكين والبائعين فى الأسواق الناشئة والمتقدمة عند حوالى 60 دولاراً للبرميل.
كما يتوقعون، أن تظل تجارة الفائدة والتقييمات والمراكز الاستثمارية، تدعم ضخ الأموال فى الأسواق الناشئة، حتى إن لم تكن قصص الأسس الاقتصادية مثلما كانت فى العقد الماضى.
ويبدو كل ذلك رائعاً.. ولكن شيئاً واحداً أدهشنى!
فرغم كل التركيز على القضايا البيئية والاجتماعية والحوكمة، فإن القليل من المشاركين فى السوق يتحدثون عن التغير المناخى وتأثيره على الأسواق الناشئة، وبعد رؤية صور الحرائق الكبرى فى استراليا وملايين الحيوانات النافقة، أشعر بالدهشة من أن هناك مزيداً من الناس لا يتحدثون عن التغير المناخى وتأثيره على الأمن الغذائى وأسعار الغذاء والتضخم عالمياً، ويبدو أن القضايا البيئية والاجتماعية والحوكمة ستتصدر المشهد، وسيكون لها تأثير كبير على الأسواق والأشخاص حول العالم.
وأتساءل إن كان للأمر أهمية، أن رأينا القليل من صدمات ومفاجآت الغذاء فى الأسواق الناشئة العام الجارى – الخنازير الصينية والجفاف فى الهند ووسط أوروبا والأمطار القليلة والجفاف فى زامبيا، والتى جميعها لديها تأثير كبير على أسعار الغذاء.
وقد يكون كل ذلك جزءاً من تقلبات طبيعية فى المناخ الزراعى، ولكن ماذا إذا كانت اكثر من ذلك؟ وهل نشهد تأثير التغير المناخى على أحوال المناخ الزراعى مع قدوم المزيد والأسوأ؟ وماذا يعنى ذلك للأسواق العالمية والأسواق الناشئة بشكل خاص؟
وبعد رؤية كل هذه الماشية نافقة على جانب الطريق فى استراليا، أتوقع ان يكون لذلك تأثير كبير على إمدادات الغذاء بالنظر إلى أن استراليا ونيوزيلاندا وهما من أكبرى مصدرى اللحوم والماشية.
ودعونا نتذكر عندما حدثت ظاهرة «إل نينو» المناخية منذ عدة سنوات وكيف كان لها تأثير جغرافى سياسى واقتصادى واسع، وكذلك إنفلونزا الخنازير فى الصين، وكيف تسببت فى ارتفاع سلات مؤشرات الأسعار الاستهلاكية فى العديد من الأسواق الناشئة، وقد تكون حرائق استراليا كذلك سمة كبيرة العام الحالى وما بعده.
وكما تبين، يبدو أن ثمة جهل كبير بتأثير التغير المناخى على الأسواق الناشئة. ولكن قامت وزارة الزراعة الأمريكية ومنظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة «الفاو»، بدراسات طويلة الأجل، تقول بشكل أساسى إن متوسط درجات الحرارة العالمية يرتفع ، وكذلك يرتفع الناتج الزراعى، لكن مع مواصلة درجات الحرارة الارتفاع، سينخفض الإنتاج الزراعى بحدة.
ومع شيوع فترات الجفاف والفيضانات، ينبغى أن نتوقع مزيداً من التقلبات فى أسعار الغذاء، وتعانى المناطق الأفقر – التى تضم الأسواق الناشئة – أكثر فى مثل هذه الأحوال، إذ إنها تكون المناطق الأكثر تحديا زراعيا ولديها موارد أقل لاستثمارها فى التكنولوجيات التى تخفف من حدة الازمة، مثل البذور المقاومة للجفاف أو تكنولوجيا الحفاظ على المياه.
والاستنتاج العام، هو أن الدول المتقدمة تكسب بفضل التكنولوجيا، والدول الناشئة تخسر رغم ان هناك بعض الرابحين المحتملين فى الأسواق الناشئة ومنهم روسيا وأوكرانيا اللتان قد تشهدان مواسم زراعة أطول، رغم أنهما ستعانيان من اضطرابات فى البداية مثل فقدان الغطاء الثلجى الذى يوفر حماية للمحاصيل من صقيع الربيع.
ويأتى كل ذلك، على خلفية عقد من ارتفاع المحاصيل الزراعية، وبالتالى انخفاض أسعار الغذاء والمحاصيل، وقد تجادل بأن مرونة البشرية بدأت تظهر وقدرتها على استخدام التكنولوجيا لمواجهة تحديات الاحتباس الحرارى، وقد تشير أيضاً إلى أننا مازلنا فى الفترة الذهبية للارتفاع الطفيف فى متوسط درجات الحرارة العالمية، مما يؤدى إلى دفعة إيجابية للمعروض.
ولكن مع ارتفاع متوسط درجات الحرارة العالمية لأكثر من 1.8 إلى 2 درجة مئوية، سنرى تأثيراً سلبياً على الناتج الزراعى، وأضف على ذلك استمرار النمو السكانى والضغوط التصاعدية على الزراعة، ويمكن للتكنولوجيا أن تخفف ذلك، لكن ستكون هناك فترات ندرة فى الموارد قبل أن تلحق التكنولوجيا.
وأحد الأشياء التى يمكن أن تهدئ التقلبات فى أسعار الغذاء والأسواق هى الإدارة الأفضل لإنتاج الغذاء وللأسواق، وتقدم السياسة الزراعية المشتركة للاتحاد الأوروبى مثالاً يحتذى به، فمثل هذه الآليات تساعد على تخفيف التقلبات، وبشكل عام كانت عاملاً كبيراً فى السابق خلف استجابات المعروض فى الأسواق المتقدمة، ولكن مع ظهور الحمائية وانتقاد الرأسمالية والسياسات المشابه، فقد نكون نتحرك بعيداً عن الإدارة الوطنية والإقليمية والعالمية للأسواق، وهو ما يضيف على التقلبات.
وتذكروا كذلك أننا قادمون من قاعدة منخفضة للغاية لأسعار الغذاء والمنتجات الزراعية، وهو ما كان أحد العوامل الكبيرة فى اتجاه الانكماش العالمى، بجانب شركة «أمازون»، وفيما يتعلق بالاقتصاد الكلى والتداعيات السياسية، ستقود أسعار الغذاء الأعلى عبر الأسواق الناشئة إلى توقف البنوك المركزية عن خفض الفائدة، وهو ما نراه فى وسط اوروبا والهند، وسينظر صناع السياسة إلى هذا الارتفاع على أنه قصة معروض قصيرة الأجل، وسيأملون أن تنعكس دورة المناخ الزراعى بدلاً من وضع معادلة جديدة تتضمن تقلبات أعلى فى أسعار الغذاء.
واستمرار الارتفاع فى أسعار الغذاء سيعنى فواتير استيراد أكبر للأسواق الناشئة التى ينقصها الغذاء، مما سيتسبب فى عجوزات أكبر فى الحسابات الجارية وفى الموازنة مع اضطرار الحكومات لتخفيف بعض التأثير عن الفقراء، ويتزامن ذلك مع ارتفاع الاضطرابات الاجتماعية التى نراها عبر الأسواق الناشئة خصوصاً فى أمريكا اللاتينية والشرق الأوسط.
وستشهد الأسواق الناشئة التى تستورد الغذاء، تراجع قيم عملاتها، وهو ما سيساهم فى اتساع عجز الحساب الجارى أكثر، وبالتالى سيترجم ذلك إلى أسعار فائدة أعلى، ونمو أقل فى الناتج المحلى الإجمالى الحقيقى.
وكما أشرت، سيكون هناك فائزون وخاسرون حتى داخل الأسواق الناشئة، وستكون روسيا وأوكرانيا والأرجنتين والبرازيل من الفائزين المحتملين باعتبارهم مصدرين كبار للأغذية، لكن ستكون الأحوال المناخية الزراعية أسوأ واكثر صعوبة لمنطقة أفريقيا جنوب الصحراء والشرق الأوسط.
بقلم: تيموثى آش
كبير الاستراتيجيين فى “بلوباى” لإدارة الأصول
لمتابعة أخر الأخبار والتحليلات من إيكونومي بلس عبر واتس اب اضغط هنا