يمثل عام 2020 بداية عقد واعد لقارة أفريقيا وخلال النصف الأول من العقد على الأقل، سيتفوق النمو الاقتصادى بجميع أنحاء أفريقيا على نظيره فى المناطق الأخرى، حيث ستظل القارة موطناً لسبعة من أسرع عشرة اقتصادات نمواً فى العالم.
ويمثل العمل الجماعى بين صانعى السياسات الأفارقة والعالميين لتحسين سبل عيش الجميع فى إطار مخطط أهداف التنمية المستدامة وجدول أعمال الاتحاد الأفريقى لعام 2063، مصدر الطاقة المشتركة لاستغلال إمكانات القارة.
والمطلوب تحديداً نشر التقنيات التحويلية للثورة الصناعية الرابعة حيث لم يسبق للمنطقة أن استعدت بشكل أفضل للتجارة والاستثمار والشراكات ذات المنفعة المتبادلة.
وتعهدت القارة بسنوات تغيير هيكلى راسخ، إلا أن العوائق التى تحول دون النجاح ما زالت قائمة، حيث أن إيجاد فرص العمل لم يواكب القوة العاملة الشابة المتزايدة ولا تزال هناك ثغرات أهمها نقص المهارات وتدنى التعليم.
ويسلط هذا التقرير الضوء على استراتيجيات معالجة العقبات القادمة التى يمكن التغلب عليها والتى تحول دون قيام قارة مزدهرة بحلول عام 2030.
باختصار، ولتحقيق أقصى استفادة، تحتاج الحكومات ورجال الأعمال الأفارقة إلى التعرف على مجالات جديدة للصناعة والاستفادة منها لتحقيق نمو مستدام وشامل واتخاذ خطوات حاسمة لسد الفجوات فى المهارات الرقمية والبنية التحتية والبحث والتطوير.
الثورة الصناعية الرابعة علاج لفقر التطور الاقتصادى
يعبر مصطلح الثورة الصناعية الرابعة عن نتائج دمج العوالم الرقمية والبيولوجية والفيزيائية معاً، وبالنسبة لأفريقيا، فإن العشرية الأولى من القرن الجديد شهدت اضطراباً اقتصادياً واجتماعياً بحسب تقرير لمعهد «بروكنجز» الأمريكى للأبحاث فى حين انشغل العالم المتقدم بالاستخدام المتزايد للتكنولوجيات الجديدة مثل الذكاء الاصطناعى والحوسبة السحابية والروبوتات والطباعة ثلاثية الأبعاد وإنترنت الأشياء والتقنيات اللاسلكية المتقدمة وأمور أخرى.
وخلال القرن الماضى فوتت ظروف صعبة مصدرها الأول الاحتلال من قبل القوى العظمى وما تركه من آثاره وأتباعه، الفرصة على القارة السمراء لكى تلحق بالثورات الصناعية الماضية، ولكن هل ستكون هذه المرة مختلفة؟
حتى الآن، لا يبدو أن أفريقيا استقبلت القرن الـ21 بالشكل المناسب، حيث لاتزال متأخرة فى العديد من المؤشرات الأساسية لثورة رقمية ناجحة، وكان التحسن فى قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات مدفوعاً إلى حد كبير بتوسيع نطاق الخدمات المالية الرقمية المتنقلة، حيث سجلت المنطقة ما يقرب من نصف حسابات الأموال عبر الهاتف المحمول العالمية فى عام 2018 وسوف تشهد أسرع نمو فى الأموال المحمولة حتى عام 2025.
ويجذب الذكاء الاصطناعى وسلسلة الكتلة الاهتمام أيضاً فى أفريقيا، حيث أنهما لديهما القدرة على مواجهة التحديات الاجتماعية والاقتصادية بنجاح، وهناك العديد من المجالات الأخرى التى يمكن أن تكون فيها تقنيات الثورة الصناعية الرابعة تحويلية، ويمكن الاستفادة من التحول إلى الثورة الصناعية الرابعة من خلال عدة محاور منها:
تشجيع النمو الاقتصادى والتحول الهيكلى:
فى السنوات الأخيرة استمر نمو قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات فى أفريقيا، وهو اتجاه من المرجح أن يستمر، حيث خلقت التقنيات والخدمات المتنقلة 1.7 مليون وظيفة مباشرة رسمية وغير رسمية على حد سواء، وساهمت فى توليد 144 مليار دولار من القيمة الاقتصادية بما يعادل %8.5 من الناتج المحلى الإجمالى فى منطقة دول جنوب الصحراء الكبرى بأفريقيا، وساهمت بمبلغ 15.6 مليار دولار للقطاع العام من خلال فرض الضرائب.
ولقد حلت الرقمنة أيضاً مشاكل عدم تناسق المعلومات فى النظام المالى وسوق العمل، مما أدى إلى زيادة الكفاءة واليقين والأمن فى بيئة يكون فيها تدفق المعلومات حاسماً بالنسبة للنمو الاقتصادى وخلق فرص العمل.
وعلى العكس من ذلك، فإن عدم الاعتراف بفرص الثورة الصناعية الرابعة والاستفادة منها، سيفرض مخاطر كبيرة على أصحاب المصالح الأفارقة، فبدون محاولات تجاوز النماذج الحالية للابتكار، وريادة الأعمال، والنمو الرقمى فى القارة، تخاطر الشركات الأفريقية بالتخلف أكثر فى حين تستمر ظاهرة تفاقم «الرقمية» العالمية ما يعنى خفض قدرتها التنافسية العالمية.
محاربة الفقر وعدم المساواة:
يمكن أن يؤدى انتشار التقنيات الرقمية إلى تمكين الفقراء من الوصول إلى المعلومات وفرص العمل والخدمات التى تحسن مستوى معيشتهم، ويمكن للذكاء الاصطناعى، وإنترنت الأشياء، وسلسلة الكتلة تعزيز فرص جمع البيانات وتحليلها لاستراتيجيات أكثر استهدافاً وفعالية للحد من الفقر.
ولقد شهد العالم بالفعل القوة التحويلية للخدمات المالية الرسمية من خلال الهواتف المحمولة التى تصل إلى المحرومين، بمن فيهم النساء، الذين يشكلون محركاً مهماً للقضاء على الفقر بشكل مستدام، وتتيح هذه الخدمات المالية للأسر الادخار فى أدوات آمنة لتوسيع قاعدة أصولها والهروب من دورات الفقر.
إعادة اختراع العمل والمهارات والإنتاج:
بحلول عام 2030، ستكون القوى العاملة المحتملة فى أفريقيا من بين أكبر القوى العاملة فى العالم فإذا ما اقترنت بالبنية التحتية والمهارات اللازمة للابتكار واستخدام التكنولوجيا فستمثل الثورة الصناعية الرابعة فرصة هائلة للنمو.
وفى الواقع، فإن هذه الثورة تغير بشكل جذرى أنظمة العمل والإنتاج العالمية، ويتطلب من الباحثين عن عمل تنمية المهارات والقدرات اللازمة للتكيف بسرعة مع احتياجات الشركات الأفريقية والأتمتة على نطاق أوسع.
وبالفعل، أصبح السكان العاملون فى أفريقيا أفضل تعليماً واستعداداً لاغتنام الفرص التى توفرها الثورة الصناعية الرابعة، وعلى سبيل المثال، من المقرر أن تزداد حصة العمال الحاصلين على تعليم ثانوى على الأقل من 36% فى عام 2010 إلى 52 % عام 2030.
زيادة الخدمات المالية والاستثمار:
لقد أثرت الرقمنة على النمو الاقتصادى من خلال التمويل الشامل، مما مكن الأنشطة غير المقيدة من الدخول فى الإجراءات الشكلية من خلال منصات المدفوعات الإلكترونية بالتجزئة ومنصات الادخار الافتراضية والعروض الائتمانية.
وعلى نطاق أوسع، فإن الرقمنة تمكن رواد الأعمال والشركات من إعادة التفكير فى نماذج الأعمال الأكثر تأثيراً واستدامة والمتصلة بقطاعات الاقتصاد الأخرى.
وعلى سبيل المثال، تساعد التكنولوجيا الفائقة فى تجاوز الرقمنة للقطاع المالى ليصل التأثير إلى القطاع الحقيقى والأسر وتحويل تصاميم المنتجات ونماذج الأعمال عبر قطاعات السوق وفقاً لذلك.
وبالنسبة الشركات فهى قادرة على تصميم المنتجات والتجارة عبر الإنترنت، والأفراد قادرون على تشغيل الخدمات المالية والمدفوعات للتسوق والاستثمارات، وتقوم الحكومة أيضاً بالانتقال إلى منصات الإنترنت لتوفير الخدمات العامة بشكل ملائم.
وهناك تقنيات أخرى للثورة الصناعية لها تأثير أيضاً، فعلى سبيل المثال، فى غرب أفريقيا وكينيا، مكنت سلسلة الكتلة من التحقق الفعال من سجلات الممتلكات والمعاملات، وتوسيع نطاق الوصول إلى الائتمان فى بعض قطاعات الاقتصاد غير الرسمية سابقاً فتم تقليل الاحتيال والتهرب، وبالتالى تكلفة المخاطرة.
وهناك أيضاً فرصاً هائلة لخلق فرص العمل فى أفريقيا فبالنظر إلى أن القطاع غير الرسمى يقدر بنسبة %55 من الناتج المحلى الإجمالى لأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، يمكن أن تكون هذه الأدوات تحويلية، ومن المتوقع أن تكون نتائجها عبارة عن زيادة الإدماج المالى، مما يسهم فى زيادة تراكم رأس المال والاستثمار، وبالتالى إمكانية خلق فرص العمل.
تحديث الزراعة والصناعات الزراعية:
لايزال يتعين على أفريقيا الاستفادة من الإمكانيات الكاملة لقطاعها الزراعى، وتوفر تقنيات الثورة الصناعية الرابعة فرصة للقيام بذلك، وتمثل الزراعة وحدها 60% من إجمالى العمالة فى أفريقيا جنوب الصحراء، ومن المتوقع أن يضيف نظام الأغذية وظائف أكثر من قطاعات الاقتصاد الأخرى بين عامى 2010 و2025.
ويتطلب النجاح فى مخطط التنمية الاهتمام بالعمالة والدخل فى المزارع، خاصة فى دول جنوب الصحراء الكبرى، حيث تمثل الأنشطة فى المزارع حوالى 50% من إجمالى الدخل فى الريف فى بلدان مثل إثيوبيا وملاوى ونيجيريا وتنزانيا.
ويمكن أن تساعد المعلومات المتعلقة بالأسعار التنافسية، ومعلومات المحاصيل التى تتم مراقبتها، ونصائح الوقاية من الأمراض، ودعم التخفيف من الكوارث فى تغيير القطاع الزراعى لتحسين الدخل والإنتاج والطلب فى جميع أنحاء القارة.
وتقدم شركتا «فارم لين» و”أجروسنتا» اللتان تتخذان من غانا مقراً لهما، تكنولوجيا المحمول ومواقع الإنترنت للمزارعين لتقديم المشورة الزراعية ومعلومات الطقس والنصائح المالية.
وتقوم شركة «زينفوس» وهى شركة ناشئة فى نيجيريا، تقوم بقياس وتحليل بيانات التربة لمساعدة المزارعين على تطبيق نظام الأسمدة الصحيح ورى المزارع على النحو الأمثل.
وقد ابتكر مهندس أوغندى آلة «Sparky Dryer”، وهى آلة تجفيف تستخدم الوقود الحيوى لتجفيف المنتجات وتقليل هدر الطعام، ويستخدم رواد الأعمال والشركات الناشئة فى أفريقيا أيضاً إنترنت الأشياء لمساعدة المزارعين على تحسين الإنتاجية وتقليل النفايات من خلال تقنيات الزراعة الدقيقة التى تعتمد على البيانات.
تحسين الرعاية الصحية ورأس المال البشرى:
تواجه البلدان الأفريقية العديد من التحديات الصحية التى تفاقمت بسبب تغير المناخ والبنية التحتية المادية المحدودة ونقص المهنيين المؤهلين ويمكن أن تساعد تقنيات الثورة الصناعية الرابعة فى تخفيف هذه التهديدات وبناء أنظمة رعاية صحية مستدامة، خاصة فى الدول الهشة.
وأصبحت تكنولوجيا الأجهزة المحمولة منبراً لتحسين البيانات الطبية وتقديم الخدمات، حيث يستخدم حوالى 27 ألف من العاملين فى مجال الصحة العامة فى أوغندا نظاماً متنقلاً يسمى «mTrac» للإبلاغ عن مخزون الأدوية.
ويعمل برنامج «SMS for Life»، وهو شراكة بين القطاعين العام والخاص، على تقليل نقص الأدوية فى مرافق الرعاية الصحية الأولية عن طريق استخدام الهواتف المحمولة لتتبع وإدارة مستويات المخزون من علاجات الملاريا وغيرها من الأدوية الأساسية.
وأصبحت رواندا أول دولة تقوم بدمج الطائرات بدون طيار فى نظام الرعاية الصحية الخاص بها، وذلك باستخدام المركبات الجوية المستقلة لتوصيل خدمات نقل الدم إلى المناطق النائية، كما عملت التكنولوجيا على تحسين الاستجابة للكوارث، فأثناء تفشى فيروس «إيبولا» فى غرب أفريقيا عام 2014، أصبح تطبيق «واتس أب» وسيلة سهلة لنشر المعلومات وفحص الأعراض والتواصل مع الحجر الصحى.
وتستخدم شركة «آى بى إم» للأبحاث فى أفريقيا أيضاً الذكاء الاصطناعى لتحديد الطرق المثلى للقضاء على الملاريا فى مواقع محددة واستخدام نظرية اللعبة وتحليلات بيانات التعلم العميق لتشخيص الأمراض واختناق الولادة.
*استراتيجيات التغلب على التحديات الرئيسية:
من الواضح أن التقنيات الحديثة تقدم فرصاً كبيرة وكذلك تحديات لأفريقيا وتتمثل القضية الرئيسية لواضعى السياسات فى كيفية تجهيز اقتصاداتهم للاستفادة منها وإدارة التحديات التى تطرحها وفيما يلى 3 استراتيجيات يجب على القادة تحديد أولويات تطبيقها.
-1 إصلاح عدم تطابق مهارات العمل:
بما أن توفير فرص العمل للشباب الناشئ يمثل أولوية فى معظم البلدان الأفريقية، فإن العديد من الحكومات تحجم عن دعم التقنيات التى تهدد الوظائف الحالية، وتميل بعض التقنيات الحالية إلى الاستعاضة عن العمال ذوى المهارات المتدنية، والتى تعانى أفريقيا بوفرتها بالعمال ذوى المهارات العالية، مما يقيد الاستفادة من الفرص المتاحة للاقتصادات ذات المهارات الجيدة، ويجب أن تستثمر الحكومات الأفريقية فى برامج التعليم وإعادة التشكيل لضمان أن تكون التكنولوجيا مكملة للعمل بدلاً من أن تحل محلها.
-2 تعزيز الحوكمة والاندماج فى سلاسل القيمة العالمية
يقع الابتكار فى القلب من الثورة الصناعية الرابعة وتعزيز القدرة المؤسسية والتنافسية ما يجعل دفع ودعم الابتكار وخلق بيئة عمل مواتية أمر ضرورى للنجاح، وينطوى التحدى التنظيمى الرئيسى على زيادة الأمن السيبرانى فيما تفتقر معظم البلدان الأفريقية إلى إطار قانونى شامل وقدرة مؤسسية للتصدى للجريمة الإلكترونية، وبدلاً من ذلك، تظهر الجهود المبذولة لمنع الجريمة السيبرانية على المستوى المحلى أو تنفذها جهات فاعلة فى القطاع الخاص بنفسها.
وعلى سبيل المثال، بين عامى 2015 و2016، كانت هناك زيادة بنسبة 73% فى الشركات المعتمدة لنظام إدارة أمن المعلومات من 129 فى عام 2015 إلى 224 فى عام 2016، لكن الغالبية كانت فى جنوب أفريقيا ونيجيريا والمغرب.
ويعد اعتماد القواعد واللوائح المقبولة على نطاق واسع والملائم خطوة أولى لزيادة الأمن السيبرانى وفى الوقت نفسه، يجب على الشركات الاستثمار فى موظفيها لتطوير مهارات الأمن السيبرانى ودمج حماية مخاطر الإنترنت فى عملية صنع القرار.
-3 تطوير البنية التحتية المادية والرقمية
الوصول إلى التكنولوجيا المتقدمة فى أفريقيا مقيد بمشكلات البنية التحتية مثل نقص الكهرباء وانخفاض كثافة انتشار الهواتف وكثافة الإنترنت وانتشار تقنية النطاق العريض للبث ونتيجة لذلك، لايزال استخدام الهاتف المحمول والإنترنت منخفض نسبياً.
وتشمل الاختناقات التكنولوجية الأخرى الافتقار إلى واجهات برمجة التطبيقات الموحدة ولغات البيانات الشائعة لزيادة تكامل أنظمة الاكتفاء الذاتى إلى حد كبير وكذلك التعرض لمخاطر الهجمات الإلكترونية.
ويعد تسريع الاتصال لشبكات الألياف الضوئية، بالإضافة إلى إمكانية التشغيل البينى للمنصات الافتراضية أمراً مهماً ليس فقط لتحسين التكنولوجيا فى القارة، ولكن للوصول إلى خفض التكاليف للذين يعانون من نقص الخدمات.
وعلى نطاق أوسع، فإن تطوير البنية التحتية الكافية سوف يدفع ويدعم التحول الاقتصادى فى أفريقيا، فمع انخفاض تكاليف النقل والاتصالات يمكن للبلدان ذات الظروف الزراعية البيئية المناسبة إنتاج منتجات عالية القيمة.
الخدمات تقود النمو فى القارة السمراء
يحدث التغيير الهيكلى فى إفريقيا، ولكن بنمط متميز عن التجربة التاريخية للبلدان الصناعية وشرق آسيا المعاصرة حيث يلعب التصنيع الذى تقوده الصادرات دوراً أصغر فى التحول الهيكلى لاقتصادات أفريقيا.
وفى الواقع، انخفض نصيب الصناعة التحويلية فى الناتج المحلى الإجمالى لأفريقيا فى المتوسط منذ عام 1980، وبدلاً من ذلك، تمتص الخدمات الجزء الأكبر من العمال الأفارقة الذين يتركون الزراعة وينتقلون إلى المدن على الرغم من أن بعضها ذات إنتاجية منخفضة للغاية.
وتعكس هذه التغييرات تأثير التقدم التكنولوجى وتغير السوق العالمية وهبات الموارد الطبيعية على آفاق التصنيع فى أفريقيا.
وفى الوقت نفسه، أدت التخفيضات فى تكاليف النقل والتقدم فى تكنولوجيا المعلومات والاتصالات إلى إنشاء خدمات وشركات زراعية تتقاسم خصائص مع التصنيع مثل قابلية التداول والقيمة المضافة العالية لكل عامل كما أن لديها القدرة على التعلم ونمو الإنتاجية.
والأهم من ذلك، بين عامى 1998 و2015، نمت صادرات الخدمات أكثر من 6 مرات أسرع من صادرات البضائع فى جميع أنحاء أفريقيا.
والجدير بالذكر أن قدرات العمل المؤسسى والمعرفة الضمنية وممارسات العمل تلعب دوراً رئيسياً فى تحديد الإنتاجية والجودة.
ولعدم وجود مصطلح أفضل، فإن معهد «بروكنجز» الأمريكى يسميها «صناعات بدون مداخن» لتمييزها عن الصناعات التقليدية ذات المداخن.
ويشير المصطلح الى تلك الأنشطة القابلة للتداول ولها قيمة مضافة عالية لكل عامل مقارنة بمتوسط الإنتاجية على مستوى الاقتصاد، وكذلك قدرة العرض على التغيير التكنولوجى ونمو الإنتاجية ويمكن أن تمتص أعداداً كبيرة من العمالة الماهرة المعتدلة، وبالإضافة إلى ذلك، تظهر قطاعات الصناعات بدون مداخن بعض الأدلة على وفورات الحجم أو التكتل. وأصبح عدد من هذه النظم ذات أهمية متزايدة فى أفريقيا، بما فى ذلك الصناعات الزراعية والبستنة، والسياحة، وبعض خدمات الأعمال ومن بينها الخدمات القائمة على تكنولوجيا المعلومات والاتصالات بالإضافة إلى النقل والخدمات اللوجيستية.
ولكن، هل يمثل نمو الصناعات التى لا تحتوى على مداخن فرصة للتصدى لتحدى بطالة الشباب؟.. تجيث هذه الدراسة عم السؤال حيث أطلقت مبادرة «نمو أفريقيا» فى «بروكنجز» مشروعاً متعدد السنوات لتقييم إمكانات خلق فرص العمل لأفريقيا وفيما يلى عرض للنتائج الأولية من دراسة الحالة التجريبية لدولة جنوب أفريقيا كنموذج.
كانت جنوب أفريقيا فى فخ النمو المنخفض منذ بداية الحكم الديمقراطى عام 1994 وبين عامى 1994 و2017 نما نصيب الفرد من الناتج المحلى الإجمالى الحقيقى بمعدل 1% فقط فى السنة، ونتيجة لذلك، حققت البلاد تخفيضات متواضعة فقط فى مستويات فقر الأسر، إلى جانب عدم المساواة العالية والمتزايدة.
ويعد سوق العمل محركاً رئيسياً لعدم المساواة، حيث يوجد عدد كبير من أصحاب الدخل الصفرى على مقايس توزيع الدخل، والذى يتسم بشكل بارز بارتفاع معدلات بطالة الشباب.
ويصل معدل بطالة الشباب فى جنوب أفريقيا الى نحو 55% عام 2018 وهو أعلى بكثير من البلدان ذات الدخل المتوسط الأعلى المماثلة أو بلدان أخرى فى دول أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.
وكما هو الحال مع البطالة الإجمالية، فإن بطالة الشباب فى جنوب أفريقيا كانت أيضاً فى اتجاه تصاعدى واضح منذ عام 2008.
وعلى غرار العديد من البلدان فى جميع أنحاء أفريقيا، فشل مسار النمو الحالى بجنوب أفريقيا فى توفير فرص عمل كافية للعاطلين عن العمل من ذوى المهارات المنخفضة واتسم اقتصاد جنوب أفريقيا بعد انتهاء نظام الفصل العنصرى بوجود قطاع أولى متآكل وقطاع تصنيع راكد.
وبدلاً من ذلك، كان هناك تحول نحو قطاعات الخدمات، حيث شهدت الخدمات المالية والنقل والبناء وغيرها من الخدمات نمواً فى التوظيف.
ويذكر أن قطاعى الخدمات المالية والمجتمعية قد استأثرا بأكثر من نصف الزيادة فى التوظيف بين عامى 2000 و2019.
ويعد التحول نحو الخدمات دون نمو الصناعات التحويلية سمة من سمات معظم دول أفريقيا، لكن فى دول أفريقية أخرى اتسم التحول نحو الخدمات إلى حد كبير بالتحول لخدمات منخفضة الإنتاجية، وغالباً فى القطاع غير الرسمى، لكن فى جنوب أفريقيا، تعتبر الخدمات المالية والمجتمعية من القطاعات عالية الإنتاجية نسبياً.
وفى الوقت نفسه، لم يولد التحول نحو خدمات القطاع الرسمى، حجم ونوع الوظائف اللازمة للحد من البطالة وعدم المساواة.
وباختصار، فى حين أن التحول إلى الخدمات قد يتيح لجنوب أفريقيا فرصة لنوع التحول الهيكلى الذى كان قائماً فى السابق على النمو فى التصنيع، فإن هذا الإنجاز يعتمد، بشكل مهم، على نوع الخدمات.
ومن بين 8.9 مليون وظيفة فى القطاع الخاص الرسمى فى جنوب أفريقيا خلال عام 2019، تمثل القطاعات الخدمية أكثر من الثلثين «%68»، أى أكثر من ضعف حصة القطاعات غير العاملة فيها.
وتعد أكبر قطاعات التوظيف غير الصناعية هى الخدمات المالية والتجارية بنسبة %23 والتجارة %16 والسياحة %9 فى القطاع الخاص الرسمى.
وفى ظل عدم وجود نمو بقطاع الصناعات التحويلية، يبدو أن جنوب أفريقيا تسير بالفعل على طريق التحول الهيكلى الذى يتميز بالتحول نحو الصناعات بدون مداخن لكن بشكل يضم فئات أوسع، وهناك عدد من القطاعات الفرعية التى قد تكون أكثر ملاءمة لمواجهة تحديات التوظيف فى جنوب أفريقيا.
وعلى الرغم من أن توزيع المهارات فى التوظيف بقطاعات الخدمات وغيرها من القطاعات غير الصناعية متشابه على نطاق واسع، فإن زيادة عدد من أنشطتها التى تتطلب عمالة أكثر كثافة قد توفر فرصاً أفضل لقوة عاملة ذات مهارة متدنية وشبه منخفضة.
والجدير بالذكر أن حصة العمالة عالية المهارات هى الأدنى فى القطاعات غير الصناعية حيث تمثل أقل من %10 فى التصنيع الزراعى والبستنة والزراعة التجارية الأخرى.
وتصل حصة العمالة شبه الماهرة بين القطاعات المختلفة إلى حوالى %65 لكن حصة العمالة ذات المهارات المنخفضة وشبه الماهرة مجتمعة هى أعلى بالنسبة للقطاعات غير الصناعية حيث تكون أكثر حدة فى السياحة والبستنة والمعالجة الزراعية بنسبة %90 من جميع العمالة.
وبالتالى، فإن هذه القطاعات لديها القدرة على خلق فرص عمل للقوى العاملة منخفضة المهارات على نطاق واسع، إذا كان من الممكن زيادة نطاق التشغيل لهذه القطاعات.
وتهدف البحوث ذات الصلة الى توسيع خيارات التغيير الهيكلى ونمو الوظائف فى أفريقيا، وعلى وجه الخصوص، يمكن أن يكون للجهود المبذولة لتنمية القطاع غير الصناعى نتائج متشابهة أو أفضل على العمالة مثل الجهود المبذولة لتوسيع التصنيع فى جنوب أفريقيا، حيث إن هذه القطاعات تتطلب عمالة أكثر كثافة من التصنيع والاقتصاد بشكل عام. وفى الواقع، تشير التوقعات المستخلصة من النتاج الأولية لأبحاث معهد «بروكنجز» إلى أنه على مدى العقد المقبل أو نحو ذلك، يمكن للقطاعات غير الصناعية أن تولِّد وظائف جديدة فى القطاع الرسمى بثلاثة أضعاف ونصف أكثر من القطاعات الصناعية.
كما أن الجهود المبذولة لتوسيع «القطاع الصناعى بدون مداخن» قد تكون لها نتائج توظيف أكثر شمولاً من تلك التى تحققت من زيادة النمو فى قطاعات التصنيع وغيرها من القطاعات غير المرتبطة بها.
وفى الواقع يبدو أن هذا القطاع فى جنوب أفريقيا أكثر كثافة فى توظيف النساء والشباب من القطاعات الأخرى.
ويعتبر قطاعى السياحة والتجهيز الزراعى مزدحمين بشكل خاص فى توظيف النساء، فى حين أن البستنة والسياحة لديها أعلى حصة من الأفراد الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و34 عاماً، وهذا الاتجاه نحو الشمولية سبب آخر يجب على الحكومات أن تسن سياسات لدعم تطوير هذه القطاعات.
ويوجد ثلاثة مجالات تتعلق بمناخ الاستثمار لها صلة خاصة بالقطاعات التى لا تحتوى على مداخن وتصنيع وهى البنية التحتية والمهارات والبيئة التنظيمية.
وبالنسبة لضعف البنية التحتية وخاصة الطاقة الكهربائية والنقل فهما أكبر عائق يؤثر على إنتاجية الشركات مما يعيق تطوير أى قطاع. كما تشكل قوة العمل غير الماهرة بشكل كاف عائقاً أيضاً فما يقرب من %60 من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و24 سنة قد أكملوا المرحلة الابتدائية فقط، و%19 فقط تجاوزوا المرحلة الثانوية.
وفى جنوب أفريقيا على وجه الخصوص، تبلغ نسبة القوى العاملة التى تتراوح أعمارهم بين 15 و34 عاماً والتى تعانى ضعف المستوى التعليمى حوالى %46.
ويعد نقص المهارات فى جنوب أفريقيا مرتفعاً بشكل خاص بالنسبة للمهارات الأساسية مثل فهم القراءة والاستماع النشط والتحدث والكتابة.
وتعانى مهارات المراقبة والتعلم الاستراتيجى والتفكير النقدى والتعلم النشط من نقص كبير فى جنوب أفريقيا، فى حين يقدم العمل فى القطاعات غير الصناعية فرصاً لتوظيف الأفراد ذوى المهارات المنخفضة، وبدون بذل جهد متضافر لمعالجة الفجوات الحالية فى المهارات، فإن الإمكانات الكاملة لهذه القطاعات لن تستغل.
ونظراً لأن الإنتاجية فى الخدمات لها تأثير هام على مستويات الإنتاجية فى الاقتصاد عموماً، فإن تمكين المنافسة من خلال الإصلاحات التنظيمية أمر ضرورى.
ويمكن أن تؤدى إزالة الحواجز التى تحول دون الدخول الأجنبى إلى الخدمات لزيادة المنافسة وتقليل التكاليف وتوسيع الوصول إلى مجموعة أوسع من الخدمات المتميزة.
وبالنسبة لمعظم البلدان فى أفريقيا، تمثل أسواق التصدير الإقليمية والعالمية أفضل فرصة للقطاعات غير الصناعية.
ولموازنة التكاليف التى يتحملها المشغلون الأولون، تحتاج الحكومات الأفريقية إلى تطوير حزمة من سياسات التجارة وأسعار الصرف والاستثمارات العامة والإصلاحات التنظيمية والتغييرات المؤسسية التى تهدف إلى زيادة حصة الصادرات غير التقليدية من الناتج المحلى الإجمالى وبعبارة أخرى، تحتاج الحكومات إلى تنظيم «دفعة تصدير» على غرار شرق آسيا.
ومثل التصنيع، تستفيد هذه القطاعات من التكتل، بما فى ذلك أسواق العمل الكثيفة، والمعلومات غير المباشرة والمعرفة، والقدرة على تبادل النفقات والخدمات العامة.
وفى حين ركزت معظم الحكومات الأفريقية على استخدام المناطق الاقتصادية الخاصة لتعزيز التصنيع، فإن المناطق الاقتصادية الخاصة ذات الصلة بالخدمات والصناعات القائمة على الزراعة مهمة كذلك.
ومن خلال معالجة هذه القيود على نمو القطاعات غير الصناعية والتصنيع معاً، لن تضطر الحكومات إلى الاختيار بين السياسة التجريبية التى تركز على التصنيع وسياسة تعزيز الخدمات القابلة للتداول والزراعة عالية القيمة، فكلاهما يمكن أن يحقق التغيير الهيكلى ونمو الوظائف.
لمتابعة أخر الأخبار والتحليلات من إيكونومي بلس عبر واتس اب اضغط هنا