ربما يحتاج الأمر أعواما على الأرجح، حتى يتمكن العالم من تقدير حجم الضربة الاقتصادية الناتجة عن جائحة كورونا المميت، بشكل كامل وبكل ثقة.
ومع دخول مزيد من اقتصادات العالم فى حالة إغلاق مطول، أصبح من الواضح بشكل متزايد أن العالم يواجه انخفاضا فى الإنتاج بشكل لم يسبق له مثيل فى نطاقه وشدته. كما أن بعض المحللين يعتقدون أن الاضطرابات الاقتصادية المتزايدة وذعر السوق تعتبر بداية شرارة الانهيار الاقتصادى الأكثر خطورة من الأزمة المالية العالمية.
وحذر يواكيم فلس، الاقتصادى فى شركة «بيمكو» الأمريكية لإدارة الاستثمارات، من إمكانية مواجهة العالم انهيارا سوقيا ثم كساد، إذا لم تتخذ الحكومات إجراءات حازمة بما فيه الكفاية.
ومن المؤكد أن كافة حالات الانكماش، تثير حالة من عدم الراحة، ولكن ألم الركود- حتى لو كان حادا للغاية- يعتمد بشكل كبير على مدة استمرار هذا الركود، فالتاريخ يشير إلى أن الانتعاش السريع بعد الخسائر الهائلة يعتبر أمرًا ممكنًا، ولكن ليس مضمونًا بأى حال من الأحوال.
وقالت مجلة «ذى إيكونوميست» البريطانية إن بعض الاقتصادات، ربما سنغافورة أو حتى كوريا الجنوبية، قد تستقر بحلول النصف الثانى من العام الحالي، وهو ما يكفى لتعويض بعض الإنتاج المفقود خلال النصف الأول من العام. ولكن احتمالية تعرض الآخرين لانخفاضات شديدة فى الناتج المحلى الإجمالى هذا العام- ربما تصل إلى %10- تنمو يوما بعد يوم.
وتعتبر الانخفاضات بهذا الحجم عادية بشكل خاص فى الاقتصادات النامية، التى تتسم بنمو متقلب للغاية، ولكن تأرجح الدول الصناعية بهذا الشكل نادرا للغاية.
فمنذ عام 1960، لم يكن هناك سوى 13 حالة، فى كافة البلدان الغنية، شهد فيها الاقتصاد انخفاضا سنويا فى الناتج المحلى الإجمالى بنسبة %5 على الأقل، فى حين انخفض الناتج بنسبة %7 على الأقل فى عام واحد فى ثلاث حالات تتمثل فى فنلندا عام 2009، واليونان فى عامى 2011 و2012، ولم ينخفض اقتصاد أى من تلك الدول بأكثر من %10، وفقا لتحليل لبيانات جمعها البنك الدولى.
فى العالم الغني، ظهرت مجموعة من الانخفاضات الكبيرة فى الناتج المحلى الإجمالى عقب أزمة البترول عام 1973، وهى الانخفاضات التى صاحبت الأزمة المالية الآسيوية فى 1997-1998، وكجزء من الأزمة المالية العالمية وما أعقبها.
وهناك منظور أوسع نطاقا يعزز ندرة مثل هذه الأحداث. فالمؤرخون الاقتصاديون فى جامعة جرونينجن الهولندية يحافظون على مجموعة من بيانات الناتج المحلى الإجمالى للبلاد والتى تمتد إلى الماضى.
ومنذ عام 1870، لم يكن هناك سوى 47 حالة، فى 18 اقتصادا صناعيا، شهدت فيها دولة ما انخفاضا سنويا تزيد نسبته على %10 فى الناتج المحلى الإجمالي، وترتبط معظم هذه الحالات بالحروب العالمية والكساد.
ومن بين 47 انخفاضا كبيرا فى الناتج المحلى الإجمالي، كان هناك 42 حالة فقط بين عامى 1914 و1945.
ولكن كيف يكون أداء الدول بعد المعاناة من مثل هذه الضربات الاقتصادية؟
أحيانا تكون عمليات التعافى سريعة جدا، فعلى سبيل المثال شهدت بعض الاقتصادات طفرة شبة فورية فى النمو فى نهاية الحروب العالمية، ولكن هذا النمو كان جزئيا وليس دائما، نظرا لإعادة التعمير.
نما الاقتصاد الإيطالى المنكوب بنحو %35 فى عام 1946، ثم استعاد كل ما خسره خلال الحرب وبعدها بحلول عام 1949، فى حين انكمش الاقتصاد الألمانى بنسبة مذهلة بلغت %66 بين عامى 1944 و1946، ثم نما بمعدل سنوى يقدر بـ %12 فى المتوسط خلال العقد التالى.
وفى حالات أخرى تكون الانتعاشة أقل قوة.. ففى عام 1924 ظل الناتج الحقيقى فى كل من ألمانيا والنمسا دون المستويات السابقة لعام 1914.
أما خلال فترة عام 1870، استغرق الأمر فى المتوسط خمسة أعوام لتتمكن الدول التى شهدت انخفاضا بأكثر من %10 فى ناتجها المحلى الإجمالي، من استعادة ذروتها مرة أخرى.
ومن المهم أن هذا الأمر يعكس حقيقة أن الأسباب الرئيسية للانكماش الاقتصادي- مثل الحروب العالمية- مستمرة وقادرة على عرقلة النشاط الاقتصادى لعدة سنوات.
فعلى سبيل المثال انخفض الاقتصاد الفرنسى بأكثر من %10 سنويا فى أعوام 1940 و1941 و1942 و1944.
ومع ذلك، لا يساهم التركيز على تجربة أكثر حداثة، وعلى انخفاضات أولية أقل تبلغ نسبتها %5، فى تغيير الصورة بشكل كبير، خصوصا أن الناتج المحلى الإجمالى استغرق فى المتوسط 4 أعوام للعودة إلى مستواه السابق فى الاقتصادات الغنية التى شهدت انخفاضا سنويا بأكثر من %5 منذ عام 1960.
ومرة أخرى، هناك أمثلة على التعافى الفورى والقوي، فبحلول عام 1999، على سبيل المثال، ارتفع الناتج المحلى الإجمالى الحقيقى فى كوريا الجنوبية بالفعل لمستويات أعلى بكثير من ذروته فى بداية عام 1997، أى قبل اشتعال الأزمة المالية الآسيوية.
وعلى النقيض من ذلك، كان التعافى من الأزمة المالية العالمية بطيئا للغاية، فقد دخل الاقتصاد الإيطالى فى أزمة فيروس «كوفيد-19» بعد أن فشل فى استعادة مستوى الناتج الحقيقى الذى حققه فى عام 2008.
وتعتقد «ذا إيكونوميست» أنه من الضرورى تطبيق أى دروس مستفادة من هذه التجارب على الوضع الحالى للعالم بعناية، فالوباء الخطير الذى يشق طريقه عبر الاقتصاد العالمى المتكامل للغاية يعتبر حدثا غير مسبوق، ولكن هناك بعض الأنماط التاريخية الجديرة بالملاحظة.
ويتمثل أول تلك الأنماط وأكثرها وضوحا فى اعتماد مدة الألم الاقتصادى على مدى الخطأ الذى حدث نتيجة الصدمة الأولية، فقد كان أداء ألمانيا والنمسا أسوأ من المقاتلين الآخرين فى الحرب العالمية الأولى، إذ خسروا الحرب وإمبراطورياتهم ثم عانوا من انهيار اقتصاداتهم وتضخم مفرط.
ولكن إذا تمكنت الدول اليوم من تحمل انخفاضات هائلة فى الناتج المحلى دون المعاناة من أضرار مؤسسية كثيرة، فإن ذلك يبشر بالخير لوتيرة التعافى.
ثانيا.. غالبا ما يصاحب الانخفاض الكبير فى الناتج المحلى تصدع فى شبكات التجارة العالمية، ولكن نجاح العلاقات التجارية يعتبر أمرا بالغ الأهمية بالنسبة لقوة الانتعاش الاقتصادى.
فعلى سبيل المثال تمتعت أوروبا الغربية بنمو هائل فى السنوات التالية للحرب العالمية الثانية، ويرجع الفضل فى ذلك جزئيا إلى الجهود المبذولة لإعادة ربط التجارة مع بعضها البعض، وهى نتيجة مختلفة تماما عن تلك التى تلت الحرب العالمية الأولى.
وبالمثل، يجب على العالم أن يأمل فى أن تتعافى التجارة سريعا بمجرد السيطرة على تفشى فيروس كورونا المميت.
ثالثا.. من المهم تصحيح سياسة الاقتصاد الكلي، فالأزمة المالية العالمية ومشاكل الديون فى منطقة اليورو التى تلت ذلك لم تقتل الملايين من الناس أو تدمر البنية التحتية القيمة، لكن الانتعاش البطيء الذى أعقب ذلك ترك أوروبا عرضة للصدمات الجديدة على المستويين الاقتصادى والسياسى.
أما الآن، فيمكن أن يكون «كوفيد-19» مدمرا اقتصاديا، إذا كانت الحكومات مترددة فى توفير ما يكفى من التحفيز، لذا يجب أن يكون العالم قادرا على الارتداد مرة أخرى إلى النمو بمجرد السيطرة على الفيروس وكل ما عليه فعله تجنب أخطاء التاريخ فقط.
لمتابعة أخر الأخبار والتحليلات من إيكونومي بلس عبر واتس اب اضغط هنا