انتقلت «السياسة الصناعية» إلى مركز المناقشات الاقتصادية، بل وحتى المناقشات التى تتناول الأمن القومى، من الولايات المتحدة إلى الاتحاد الأوروبى.
لكن هذا المصطلح قد يكون مضللاً، ليس بسبب غموض معناه فحسب، بل وأيضاً لأنه لا يعبر عن الحتمية الحقيقية التى تواجه صُناع السياسات.
يشير مصطلح السياسة الصناعية إلى استخدام مجموعة واسعة من الأدوات، من الضوابط التنظيمية إلى إعانات الدعم والحوافز الضريبية، لدعم النمو الاقتصادى الشامل أو تعزيز الدينامية فى قطاعات بعينها.
الواقع أن السياسة الصناعية قديمة قِدم الدولة، فبالعودة إلى عهد أسرة هان فى الصين قبل ألفى عام، سنجد أن صناعة الحديد كانت حكرًا على الدولة.
وفى أوروبا، تمتد ملاحقة السياسة الصناعية إلى أعماق بعيدة فى التاريخ، فقد أنفقت الحكومات الأوروبية قرونا فى دعم الصناعات والتكنولوجيات الحيوية، وخصوصا تلك الأكثر صِـلة بالحرب، من أجل الحفاظ على سبقها لأعدائها، الذين كانوا غالبا جيرانها أيضا.
وفى وقت أقرب إلى الزمن الحاضر، اتبعت الحكومات الأوروبية سياسات صناعية الغرض منها تحقيق التكامل، وليس التقاتل، فيما بينها.
بدأ التحول الجوهرى عام 1950، مع إنشاء الجماعة الأوروبية للفحم والصلب.
بعيدا عن محاولة تحسين فرص البلدان فى الحرب، عملت هذه السياسة الصناعية لعموم أوروبا، والتى كان الهدف منها تجميع إنتاج الفحم والصلب، على تثبيط النزعة القتالية فى القارة.
كان وضع الفحم والصلب، وكلاهما يشكل ضرورة أساسية لإنتاج الدبابات والمدافع، تحت سيطرة هيئة عليا مشتركة يعنى عدم قدرة أى دولة على تسليح نفسها ضد الدول الأخرى.
من ناحية أخرى، دعمت هذه السياسة التعافى الاقتصادى بعد الحرب العالمية الثانية.
من الممكن أيضًا وصف خطوات حاسمة أخرى نحو التكامل الأوروبى على أنها سياسة صناعية.
بدأ الاتحاد الأوروبى كما نعرفه اليوم ببرنامج لإلغاء التعريفات الجمركية بين بلدان أوروبا بإنشاء اتحاد جمركى فى عام 1958، ثم أعقب ذلك جهود حثيثة للحد من الروتين على الحدود الأوروبية من خلال التنسيق بين مئات من الضوابط التنظيمية، وتوجت تلك الجهود بقانون السوق الموحدة فى عام 1992.
تلاحق البلدان الأوروبية الأعضاء أيضًا سياسات صناعية فردية، وإن كانت الضوابط الصارمة التى يفرضها الاتحاد الأوروبى على المساعدات من جانب الدولة، بما فى ذلك منع إعانات الدعم التى تقدمها دولة بعينها من إعطاء الشركات ميزة تنافسية غير عادلة، تحد من حيز المناورة المتاح لها.
لكن الحكومات الوطنية لاتزال تستثمر فى مشروعات البحث والتطوير، وتدعم التعليم الفنى، وتشيد البنية الأساسية اللازمة.
يتفق أغلب أهل الاقتصاد على أن مثل هذه التدخلات من الممكن أن تعمل على تعزيز النمو والدينامية.
وتحتدم المناقشة الدائرة حول السياسة الصناعية عندما يتعلق الأمر بالتساؤل حول ما إذا كان ينبغى للحكومات أن تتدخل بشكل مباشر فى الاقتصاد من خلال دعم قطاعات بعينها.
وتأتى دراسة حديثة أجرتها ريكا جوهاس، وناثان جيه. لين، ودانى رودريك، والتى أظهرت أن التدابير الحكومية من الممكن أن تخلف عواقب بعيدة الأمد على مواقع صناعات بعينها، لتصب الزيت على النار.
لكن احتلال السياسات الصناعية لهذه المرتبة العالية على أجندات الحكومات اليوم ليس راجعا إلى أن الأبحاث الاقتصادية تقول إن هذا ما ينبغى لها. بل إن الدافع الذى يحرك الحكومات فى المقام الأول هو التوترات الجيوسياسية: فقد استحدثت كل من الولايات المتحدة والصين استراتيجيات صناعية رسمية تؤكد على الحاجة إلى تزويد القطاعات التى تعدّ بالغة الأهمية للأمن القومى بالدعم.
وعلى هذا فإن المنافسة الصناعية بين القوى العظمى اليوم تشبه إلى حد كبير أوروبا القديمة التى مزقتها الحروب.
ولكن ماذا عن السياسة الصناعية المعمول بها فى عموم أوروبا؟
نشرت المفوضية الأوروبية مؤخرًا قائمة بالتكنولوجيات الحرجة، لكن فى تنفيذ سياسة صناعية على غرار تلك المعمول بها فى الولايات المتحدة أو الصين، تواجه أوروبا مفارقة: فقد عملت الجهود التى بذلها الاتحاد الأوروبى لإنهاء استخدام السياسة الصناعية كأداة جيوسياسية بين الدول الأوروبية على الحد بدرجة كبيرة من الحيز المتاح للبلدان الأعضاء للاستجابة للسياسات الصناعية ذات الدوافع الجيوسياسية التى تنتهجها جهات أخرى.
من المؤكد أن الاتحاد الأوروبى تعامل مع قطاعات تشهد انحدرًا. ففى عام 1978، عندما كانت صناعة الصلب تناضل فى مواجهة صعوبات، نفذت الجماعة الاقتصادية الأوروبية ما يسمى خطة دافينيون، التى حددت سقف الإنتاج فى مختلف الدول الأوروبية بطريقة شبه تناسبية.
لكن الاتحاد الأوروبى لم يحتضن قط سياسة صناعية نشطة، ويرجع هذا إلى سبب بسيط مفاده أنه، على النقيض من الصين أو الولايات المتحدة، لا يملك ميزانية فيدرالية يمكن من خلالها تزويد قطاعات بعينها بإعانات دعم كبيرة.
من المفهوم بالتالى أن تدعو رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، إلى إنشاء صندوق سيادى أوروبى جديد، لكن من المنطقى أيضًا أن يكون القادة الوطنيون، الذين سيضطرون إلى تمويل هذا الصندوق، عازفين عن تسليم أموال دافعى الضرائب فى بلدانهم إلى الاتحاد الأوروبى لتعزيز التنمية الصناعية فى مكان آخر.
فى غياب تمويل سياسة صناعية مشتركة على مستوى الاتحاد الأوروبى، تلجأ المفوضية الأوروبية إلى تخفيف القواعد التى تحكم مساعدات الدولة.
على سبيل المثال، بموجب قانون الرقائق الإلكترونية الأوروبى، تستطيع المفوضية الموافقة على دعم وطنى موجه لصالح مصانع أشباه الموصلات الكبرى.
ولكن هل تخلف قدرة البلدان الأعضاء المكتشفة حديثا على دعم صناعات بعينها، التأثير المرغوب؟
تتوقف الإجابة على هذا السؤال على الجانب الذى تسانده فى مناقشة السياسة الصناعية.
سيرحب بهذا النهج الذى يتبناه الاتحاد الأوروبى أولئك الذين يعتقدون أن الحكومات قادرة على تحديد القطاعات التى تتمتع بإمكانات النمو الإيجابى، خاصة وأن المفوضية تحتفظ بالحق فى تقييم ما إذا كانت أى مساعدة حكومية وطنية متناسبة ومعززة للكفاءة.
من ناحية أخرى، يعتقد المتشككون أن الحكومات الوطنية من المرجح أن تمول «الشركات الوطنية الكبرى» أو المشروعات المريحة سياسيًا، وأن البيروقراطيين فى الاتحاد الأوروبى لا يمثلون الجهة الملائمة لتفكيك سلاسل العرض المعقدة وتحديد القطاعات التى تتمتع بالقدر الأعظم من الإمكانات.
تشير تجارب سابقة تسلط الضوء على سيطرة الشركات الوطنية الكبرى على الساسة إلى أن وجهة نظر المتشككين ربما تكون الأكثر واقعية.
من ناحية أخرى، من الممكن أن تدور السياسة الصناعية، بل ينبغى لها أن تدور، حول ما يتجاوز كثيرًا مجرد تزويد مؤسسات ضخمة بمليارات اليورو لتستخدمها فى بناء مصانع التكنولوجيا الفائقة فى الداخل، فمن شأن زيادة الإنفاق على مشروعات البحث والتطوير أن تعمل على تزويد صناعة التكنولوجيا الفائقة فى عموم الأمر بقاعدة أقوى.
ولايزال من الممكن استهداف وتوجيه هذا الدعم غير المباشر.
على سبيل المثال، ستستفيد صناعة الرقائق الإلكترونية الدقيقة من إنشاء مدارس فنية متخصصة ودعم الخبرات المحلية فى العناصر الأساسية التى تدخل فى عملية صنع الرقائق الإلكترونية.
والواقع أن هذا النهج يعد استراتيجية أكثر من كونه سياسة، ومن المرجح أن يعود بقدر أعظم كثيرًا من النفع على أوروبا، مقارنة بضخ الأموال العامة إلى قلة من المصانع الضخمة.
بقلم: دانييل جروس، مدير معهد صنع السياسات الأوروبية فى جامعة بوكوني
المصدر: موقع «بروجكت سنديكيت»
لمتابعة أخر الأخبار والتحليلات من إيكونومي بلس عبر واتس اب اضغط هنا