دائماً ما تتسبب صدمات أسعار البترول فى تقسيم اقتصادات العالم إلى رابحين وخاسرين، مما ينتج عنه فى كثير من اﻷحيان تغير جيوسياسى دائم، ولا يبدو أن هذه المرة ستكون مختلفة عن المرات السابقة، وتزامن أكبر انخفاض فى أسعار البترول الخام منذ 3 عقود، يوم الاثنين الماضى، مع تفشى فيروس «كورونا» المميت وتباطؤ النمو الاقتصادى فى الصين وموجة تتسم بمقاومة العولمة التى تؤثر على التجارة وظهور الولايات المتحدة كأكبر منتج للبترول فى العالم.
وحتى بالنسبة لبعض الدول المستهلكة، ربما يطغى انهيار الطلب الناتج عن «كوفيد-19» هذه المرة على المكاسب الناتجة عن انخفاض أسعار البترول، وفقاً لما أوضحته وكالة أنباء «بلومبرج».
وقال جابرييل ستيرن، رئيس الخدمات الاستراتيجية العالمية فى شركة «أوكسفورد إيكونوميكس»، إن التغيير اﻷكبر فى العالم ربما يكون فى وصول التضخم وأسعار الفائدة بالفعل إلى مستويات منخفضة للغاية، ما يعنى أن البنوك المركزية قد لا تكون لديها قدرة كبيرة على التخفيف من الآثار الانكماشية الناجمة عن انخفاض تكاليف البترول.
ومن الصعب التنبؤ بتأثير البترول الذى تقل مستوياته عن 30 دولاراً للبرميل على الحكومات فى العالم، ولكن من المتوقع أن تفوز الدول المستوردة فى آسيا ووسط أوروبا، بينما سيعانى المنتجين الرئيسيين فى الشرق الأوسط وشمال أوروبا والأمريكتين من هزيمة، ولكن اﻷمر ليس بهذه البساطة.
الفائزون فى الشرق اﻷوسط وشمال أفريقيا
قد تحصل مصر، التى تستعد لتأثير «كورونا» على صناعة السياحة، على بعض الراحة من انخفاض أسعار البترول، فعلى الرغم من أنها دولة منتجة للبترول، إلا أنها تعتبر أيضاً مستورد صافى للخام، مما يعنى أن انخفاض الأسعار يجب أن يفيد الموارد المالية للحكومة.
ويمكن أن يوفر الادخار فى فواتير استيراد الطاقة مساحة للتنفس للحكومة، التى تحاول المضى قدماً فى برنامج الإصلاح الاقتصادى الذى كان ينطوى فى السابق على تخفيضات شاملة فى الإنفاق العام والإعانات.
الخاسرون فى الشرق اﻷوسط وشمال أفريقيا
انخرطت السعودية، أكبر دولة مصدرة للبترول فى العالم، فى حرب أسعار مع روسيا الأسبوع الماضى بعد تخفيض التكلفة الرسمية للبترول الخام للمشترين فى المملكة إلى أدنى مستوياته فى أكثر من 30 عاماً، ولكن هذه الخطوة جاءت فى وقت حساس بالنسبة لبلد فى خضم تحول اقتصادى وسياسى واجتماعى كبير وربما تكون هذه الخطوة مكلفة أيضاً.
وسعى ولى العهد الأمير محمد بن سلمان إلى فصل الاقتصاد عن البترول عن طريق الانفتاح على السياحة واستخدام أصول شركة البترول العملاقة «أرامكو السعودية» لتشييد صندوق للثروة السيادية للاستثمار فى الاقتصاد الجديد، ولكن أصبح يتعين على البلاد الآن استرجاع الكثير من هذا الجهد مع عواقب غير مؤكدة.
وبجانب فيروس كورونا، قد يؤدى انهيار البترول إلى تقويض الانتعاش الاقتصادى الناشئ فى البلاد وربما يؤدى أيضا إلى عجز أعلى فى الميزانية، مما قد يدفع السلطات إلى خفض الإنفاق فى بلد كان السخاء فيه ضامناً للاستقرار الاجتماعى والسياسى.
وتعتمد إيران على عائدات البترول لتحقيق التوازن فى ميزانيتها وكانت بالفعل فى مأزق مع انخفاض صادرات البترول الخام منذ فرض الولايات المتحدة عقوبات فى عام 2018، التى تدل على أن البلاد استوعبت الكثير من اﻷلم من الخسائر المرتبطة بالبترول، وبالتالى فإن خسارتها الناتجة عن حرب الأسعار الحالية أقل من أى عضو آخر فى الدول المصدرة للبترول «أوبك».
الفائزون فى اﻷمريكتين
لقد فازت الولايات المتحدة تاريخياً من انخفاض أسعار البترول، كما أن الرئيس اﻷمريكى دونالد ترامب سارع بالاحتفال بهذا الحدث فى تغريدة على موقع التغريدات القصيرة «تويتر» يوم الاثنين، ولكن الكثير تغير منذ الثمانينيات، فهذه المرة اﻷمر أقل وضوحاً، خاصة أن الولايات المتحدة كانت أكبر منتج للبترول فى العالم فى عام 2019 وتفوقت على السعودية بفضل ارتفاع إنتاج البترول الصخرى.
وفى ظل الاستفادة القصوى من منتجى البترول الصخرى، يمكن أن يؤدى الانخفاض المستمر فى اﻷسعار إلى دفع بعض الشركات لوضع خطط استثمارية وحشية فى جميع أنحاء الصناعة، مما يخلق عقبة أمام خلق فرص العمل والنمو.
وفى الواقع، كان القضاء على المنافسة أحد الأسباب التى استدعت تحرك روسيا الذى ساعد فى التعجيل بانهيار أسعار البترول، كما أن أى انتكاسة كبيرة فى البترول الصخرى قد تعوض الشعور الجيد الذى يحصل عليه الناخبون من انخفاض أسعار البنزين، مما قد يؤثر على فرص إعادة انتخاب ترامب فى نوفمبر المقبل.
وفى الحقيقة، كما يقول ستيرن من «أكسفورد إيكونوميكس»، فإن انهيار البترول الصخرى قد يدفع الولايات المتحدة بحزم إلى معسكر الخاسرين من سعر 30 دولاراً لبرميل البترول، ويمكن أن تستفيد بيرو، المستورد الصافى الذى اشترى 5.6 مليار دولار من المنتجات البترولية العام الماضى، أيضاً من انخفاض أسعار البترول الخام، رغم أنه قد يؤخر أيضاً الاستثمار فى أعمال التنقيب اللازمة لزيادة الإنتاج المحلى.
وتعتبر الصورة أكثر دقة بالنسبة للبرازيل، حيث يمكن للرئيس جايير بولسونارو الشعور ببعض الارتياح فى تعامله مع سائقى الشاحنات، الذين أدى إضرابهم ضد ارتفاع أسعار الديزل قبل عامين إلى توقف البلاد تماماً.
الخاسرون فى اﻷمريكتين
إذا كانت الولايات المتحدة حالة مختلفة يشوبها الالتباس، فإن فنزويلا ليست كذلك، حيث يباع البترول هناك بالفعل بخصم كبير بسبب العقوبات الأمريكية التى تقلل من قدرة البلاد على تصدير البترول الخام، ولكن انخفاض أسعار البترول الدولية سيعنى تلقى شركة البترول الوطنية الفنزويلية، أحد شرايين الحياة القليلة المتبقية لنظام نيكولا مادورو المحاصر، قدر أقل من المال.
ووضع تحليل أجرته شركة «أليانز» للأبحاث الإكوادور و كولومبيا على رأس قائمة الدول الأكثر تعرضا للخسارة إذا ظل سعر برميل البترول عند مستوى يقل عن 45 دولاراً، حيث سجلا أكثر من نقطة مئوية خسارة فى النمو لكل منهما، ومن المحتمل أن تتعثر الإكوادور بشكل كبير فى سداد ديونها، وسط شكوك حول مدفوعات قرض صندوق النقد الدولى.
وفى الوقت نفسه، قالت «أكسفورد إيكونوميس»، إن المكسيك ستخسر نحو 0.15% من الناتج المحلى الإجمالى، بينما تعتقد «أليانز» أنها ستخسر نسبة أكبر، كما أن الحكومة المكسيكية قد تناضل مع خططها لتوسيع دور شركة «بيميكس» للبترول، بينما قد يعيق هبوط البيزو مؤخراً قدرة البنك المركزى على اتباع البنك الاحتياطى الفيدرالى فى الخفض الطارئ لأسعار الفائدة.
وتخطط اﻷرجنتين لتنمية حقل «فاكا مويرتا»، وهو ثانى أكبر احتياطى عالمى للغاز الصخرى، والذى يعانى بالفعل تحت إدارة اليسارى ألبرتو فرنانديز، ولكنها ستضطر للانتظار لفترة أطول، كما أن التقلبات السوقية ستعقد أيضاً خطط الحكومة لإعادة تمويل الديون، وفى الوقت نفسه، يعتقد الاقتصاديون أن انخفاض أسعار البترول قد يدفع الاقتصاد الكندى نحو حافة الركود.
الفائزون فى آسيا
تستفيد الصين من انخفاض أسعار البترول كمستورد رئيسى، ولكن هذه المرة ربما يستغرق اﻷمر بعض الوقت ليظهر تأثير انخفاض اﻷسعار، خاصة أن البلد الآسيوى يمتلك بالفعل مخزونات عالية من البترول والغاز الطبيعى السائل، بينما يعيق تفشى فيروس «كورونا» السفر والتصنيع ويثير عدم اليقين.
ويجب أن تكون الهند، ثالث أكبر مستهلك للبترول الخام فى العالم، من بين أكبر المستفيدين من انخفاض أسعار البترول، نظراً لانخفاض فاتورة الاستيراد بشكل كبير، كما يمكن أن يساعد البترول الرخيص أيضاً حكومة رئيس الوزراء ناريندرا مودى من خلال السماح لها بزيادة الضرائب على الوقود، بدلاً من تمرير الفائدة الكاملة لتراجع الأسعار إلى المستهلكين.
ويعتبر انخفاض أسعار البترول مفيد بشكل عام بالنسبة لليابان التى تفتقر إلى الموارد، حيث يساعد الغاز الأرخص المستهلك على مواجهة أزمة الثقة المتعلقة بـ»كورونا» والارتفاع الضريبى على المبيعات، مما يعنى انخفاض التكاليف بالنسبة للشركات أيضا وبالتالى تدعيم الأرباح من خلال التباطؤ الذى يلوح فى الأفق.
الخاسرون فى آسيا
تعتبر أستراليا، منتج السلع الرئيسى وتعتمد على اﻷسواق الآسيوية، أحد الخاسرين، حيث تعرضت عملتها المحلية إلى ما يسمى بالانهيار المفاجئ الاثنين الماضى، قبل التعافى بشكل كبير، لأن توقعات النمو فى البلاد لعام 2020 انخفضت بمقدار %1.5 منذ تفشى «كورونا»، وفقاً لجيمس ماكينتاير من «بلومبرج إيكونوميكس».
الفائزون فى أوروبا
تميل معظم الدول الأوروبية إلى الفوز عند انخفاض أسعار البترول، ﻷنها تعتبر مستورد صافى رئيسى للبترول الخام، خاصة من روسيا، حيث يمكن أن يؤدى انخفاض أسعار البترول إلى زيادة دخل الأسر فى ألمانيا وفرنسا من خلال خفض نفقات الوقود والغذاء، ولكن ليس بالضرورة أن يرحب صناع السياسة بهذا الانخفاض هذه المرة.
وفى ألمانيا، أصبح عامة الناس محبطين بشكل كبير من معدلات الفائدة المنخفضة التى أعلنها البنك المركزى الأوروبى لمعاقبة المدخرين فى البلاد كما أنه قد يكون هناك قلق إضافى بشأن تأثير التضخم، وبالنسبة لإيطاليا، يمكن أن يتضائل التعزيز المالى الذى يأتى مع انخفاض تكاليف البترول بجانب المخاطر الحالية المتمثلة فى إقفال البلاد تماما بسبب «كورونا».
الخاسرون فى أوروبا
تحصل روسيا، التى بلغ إنتاجها من البترول والغاز المكثف رقماً قياسياً فى مرحلة ما بعد الاتحاد السوفيتى فى العام الماضى، على نصف إيرادات ميزانيتها تقريباً من صناعة الطاقة، ولكن تحرير سعر صرف الروبل والنظام الضريبى المرن ساعدا فى حماية الميزانية من صدمات أسعار البترول السابقة.
وفى الوقت نفسه، أعلنت وزارة المالية الروسية مؤخراً استعدادها لبدء بيع العملات الأجنبية إذا ظلت أسعار البترول دون مستوى قاعدة الميزانية المسموح به البالغ 42.40 دولار للبرميل، مشيرة إلى أن صندوق الرفاه الوطنى فى روسيا بإمكانه تغطية الإيرادات المفقودة من البترول بما يتراوح بين 25 و30 دولاراً للبرميل لمدة تصل إلى 10 أعوام، ويعتقد المحللون أن موسكو فى وضع أفضل لاستيعاب فترة متواصلة من انخفاض أسعار البترول من منافستها السعودية، رغم أن التكلفة قد تكون أثقل.
لمتابعة أخر الأخبار والتحليلات من إيكونومي بلس عبر واتس اب اضغط هنا