يعد تاريخ التضخم فى روسيا طويلا ومؤلما، فبعد ثورة عام 1917، واجهت البلاد أعواما من ارتفاع الأسعار، ثم واجهت ضغوطًا مستمرة على الأسعار فى الفترة المبكرة من حكم جوزيف ستالين.
كما تسببت نهاية الاتحاد السوفيتى والأزمة المالية العالمية ثم غزو فلاديمير بوتين الأول لأوكرانيا فى 2014 فى حدوث المشاكل.
وبالتقدم سريعًا إلى أواخر عام 2023، مع اقتراب الحرب فى أوكرانيا من الذكرى السنوية الثانية لتأسيسها، وتتسارع الأسعار الروسية مرة أخرى، حتى مع انخفاض التضخم فى أماكن أخرى.
تشير الأرقام المنشورة فى 8 ديسمبر إلى أن التضخم فى نوفمبر بلغ %7.5 على أساس سنوى، ارتفاعًا من %6.7 فى الشهر السابق.
تعامل البنك المركزى الروسى مع ارتفاع حاد فى معدل التضخم أوائل 2022، بعد فترة وجيزة من غزو روسيا لأوكرانيا للمرة الثانية.
حالياً، يشعر المسؤولون بالقلق من أنهم ربما يفقدون السيطرة، وذلك رغم نجاحهم فى السيطرة على الأزمة الأخيرة، حسب ما نقلته مجلة «ذا إيكونوميست» البريطانية.
وفى الاجتماع الأخير للبنك المركزى، رفع المسؤولون أسعار الفائدة بمقدار نقطتين مئويتين، أى ضعف ما كان متوقعًا، وثمة زيادة مماثلة منتظرة فى الاجتماع التالى فى 15 ديسمبر، ومع ذلك، يتوقع معظم المتنبئين أن يستمر التضخم فى الارتفاع.
نتج التضخم فى روسيا عام 2022 عن ضعف الروبل، فبعد أن بدأ بوتين غزوه لأوكرانيا، تراجعت العملة بنسبة %25 مقابل الدولار، مما رفع تكلفة الواردات.
هذه المرة تلعب تحركات العملة دورًا صغيرًا، إذ ارتفع الروبل بالفعل فى الأشهر الأخيرة، ويرجع ذلك جزئيًا إلى أن المسؤولين أدخلوا ضوابط على رأس المال.
يتماشى التضخم فى أسعار السلع الاستهلاكية غير الغذائية، والتى يتم استيراد الكثير منها، مع متوسط ما قبل الحرب.
إذا ألقيت نظرة عن كثب إلى اقتصاد بوتين فى زمن الحرب، يتضح أن الأزمة تزداد بشكل خطير، فالتضخم فى قطاع الخدمات مرتفع بشكل استثنائى.
يلقى العديد من الاقتصاديين باللوم على النفقات الحكومية، التى ترتفع مع محاولة بوتين هزيمة أوكرانيا، حيث سيتضاعف الإنفاق الدفاعى تقريبًا فى 2024 ليصل إلى %6 من الناتج المحلى الإجمالى، وهو أعلى مستوى له منذ انهيار الاتحاد السوفيتى.
تعزز الحكومة أيضًا مدفوعات الرعاية الاجتماعية وذلك فى ظل إدراكها لاقتراب الانتخابات المقبلة.
تتلقى بعض عائلات الجنود الذين قتلوا أثناء القتال مدفوعات تعادل ثلاثة عقود من متوسط الأجور، كما تشير الأرقام الصادرة عن وزارة المالية الروسية إلى أن التحفيز المالى يساوى حاليًا حوالى %5 من الناتج المحلى الإجمالى، وهو دفعة أكبر من تلك التى تم تنفيذها خلال الجائحة.
هذا الأمر يرفع بدوره معدل نمو البلاد، إذ تشير البيانات الاقتصادية فى الوقت الفعلى التى نشرها بنك «جولدمان ساكس» إلى نمو قوى، فيما رفع بنك «جيه بى مورجان» توقعاته المحلية الإجمالية لعام 2023، من انخفاض بنسبة %1 فى بداية العام، إلى %1.8 فى يونيو ومؤخراً إلى %3.3.
وهذا جعل بوتين يتفاخر مؤخراً قائلاً: «الآن نقول بثقة: سيتجاوز النمو نسبة %3».
أثبتت التنبؤات بالانهيار الاقتصادى الروسى، الذى صنعه الاقتصاديون والسياسيون الغربيون بشكل موحد تقريبًا فى بداية الحرب فى أوكرانيا، كانت خاطئة للغاية.
المشكلة هى أن الاقتصاد الروسى لا يمكنه تحمل مثل هذا النمو السريع، فمنذ بداية 2022، تقلص جانب المعروض بشكل كبير.
كما فر آلاف العمال، الذين غالبًا ما يكونون متعلمين تعليماً عالياً، من البلاد، فيما سحب المستثمرون الأجانب ما قيمته 250 مليار دولار من الاستثمار المباشر، أى ما يقرب من نصف الأسهم قبل الحرب.
يتزايد الطلب بشكل هائل فى مقابل هذا الانخفاض فى العرض، ما أدى إلى ارتفاع أسعار المواد الخام ورأس المال والعمالة.
كما أن انخفاض البطالة، التى تستقر عند أقل من %3، إلى أدنى مستوياتها المسجلة يشجع العمال على طلب أجور أعلى بكثير، حيث ينمو الأجر الاسمى بنحو %15 على أساس سنوى، ثم تنقل الشركات هذه التكاليف المرتفعة إلى العملاء.
ربما يؤدى ارتفاع أسعار الفائدة فى النهاية إلى انخفاض الطلب جزئياً، ما يمنع التضخم من الارتفاع أكثر.
ويمكن أن يؤدى انتعاش أسعار البترول وضوابط رأس المال الإضافية إلى تعزيز عملة الروبل، ما يقلل تكلفة الواردات.
ومع ذلك، فإن كل هذا يعمل ضد عامل رئيسى ثابت، وهو رغبة بوتين فى الفوز فى أوكرانيا، وفى ظل وجود كثير من القوة النارية المالية، سيكون لديه القدرة على إنفاق أكبر فى المستقبل، مما ينذر بتضخم أسرع، وكما هو الحال فى العديد من المناسبات السابقة، هناك فى روسيا أشياء أكثر أهمية من الاستقرار الاقتصادى.
لمتابعة أخر الأخبار والتحليلات من إيكونومي بلس عبر واتس اب اضغط هنا