تقدم «فيتنام» تجربة مختلفة فى نهوض الدول من مرحلة الفوضى الكاملة إلى الاستقرار والتنمية المستدامة، رغم أنها لم تلجأ لاستنساخ تجارب سابقة، لكن لا تزال الدول فى حاجة للتعلم من بعضها البعض.
وباتت «فيتنام» دولة نامية ناجحة بشكل ملحوظ، وأفضل مقياس لشرح ذلك هو انخفاض الفقر المدقع، من %53 من السكان فى عام 1992 إلى أقل من %3 حالياً.
ويمكن تفسير «نموذج فيتنام» بعدة طرق، لكنَّ النموذج الاقتصادى يمكنه أن يعكس واقع هذا التطور، خاصة مع توضيح علاقاته وتأثيراته على الجوانب الأخرى.
ويرى الخبراء، أن تجارب «فيتنام» لها تأثير كبير على كيفية التفكير فى التنمية وتفعيل دور المساعدات الخارجية.
3 ركائز وراء نجاح نموذج التحول لاقتصاد السوق الحر
فى 1986 أطلقت «فيتنام» مشروعها النهضوى فى اجتماع للحزب الحاكم عام 1986، ولكن تم إدخال الإصلاحات الرئيسية ابتداءً من موازنة 1988 – 1989 والتى شملت العديد من العناصر لذلك من الخطأ التبسيط الزائد لخطط الإصلاح.
ويستحق الأمر بحسب تقرير لمعهد «بروكنيجز» الأمريكى التأكيد على 3 تغييرات مهمة تم إدخالها فى هذا الوقت، والتى تفاعلت بطريقة قوية وهى: فتح مساحة للمبادرة الخاصة، وفتح الاقتصاد أمام التجارة الخارجية والاستثمار المباشر، وتحقيق الاستقرار فى مستوى الأسعار وسعر الصرف.
وأشار المعهد الأمريكى إلى أن أول تقرير كبير للبنك الدولى، تم الانتهاء منه فى عام 1993 كان يسمى «فيتنام: الانتقال إلى السوق».
ويعتبر أساس اقتصاد السوق دعم توجه المبادرة الخاصة، وفى حالة فيتنام كان معظم السكان من المزارعين الذين جرى تنظيمهم فى مجموعات فى وقت واجهت فيتنام فيه مشكلة إطعام نفسها، وكانت تناشد الحصول على مساعدات غذائية دولية فى منتصف الثمانينيات رغم وجود الكثير من الأراضى الخصبة.
ويرى التقرير، أن الإصلاح الوحيد الأكثر أهمية هو إعادة الزراعة إلى نمط الزراعة الأسرية عندما لم يكن للعائلات حقوق ملكية ثابتة وقابلة للتداول، ما جعلهم يثقون بأنهم فى ظل النظام الجديد سيكونون قادرين على البيع والاستفادة مما يزرعون، والنتيجة أن الإنتاج الزراعى قفز على الفور بنسبة %20.
وسمحت فيتنام، أيضاً، للشركات الخاصة الصغيرة بالبدء فى العمل بحيث كان هناك بعض التوسع فى الإنتاج الحضرى، وكذلك المطاعم وخدمات سيارات الأجرة والتصنيع على نطاق صغير، وإن لم يكن مقدار الازدهار فيها دراماتيكياً مثل التحول فى منطقة الريف والمجال الزراعى.
الإصلاح الرئيسى الثانى كان تحرير التجارة الخارجية والاستثمار فى وقت كانت فيه صادرات الأرز محظورة، وكان لها منطق معين يقوم على أن الشعب فى حاجة إلى إطعام نفسه.
ولحسن الحظ، تم رفع الحظر تماماً كما ارتفع إنتاج الأرز، وأصبحت فيتنام على الفور ثالث أكبر مصدر للأرز فى السوق العالمى وهذا مثال رائع على كيفية تفاعل الإصلاحات.
ومن المحتمل أن يفشل الإصلاح الزراعى دون تحرير التجارة؛ لأن زيادة الإنتاج فى اقتصاد مغلق تعنى انخفاضاً حاداً فى سعر الأرز وبمرور الوقت تقل المساحة المنزرعة فتتافقم أزمة الجوع داخلياً.
وكانت تجربة معظم الناس لإصلاح السوق سلبية، لكن الصادرات حافظت على سعر الأرز بحيث كان المزارعون أفضل حالاً، كما أن طلبهم على المنتجات الحضرية الأخرى نشر فوائد الإصلاح سريعاً فى باقى أنحاء البلاد.
وبدأت فيتنام باستيراد مجموعة واسعة من السلع المصنعة مثل أجهزة التلفاز والدراجات النارية، ما أسهم فى ارتفاع مستويات المعيشة، ففى حين أنها بدأت تصدير الأرز والفواكه فهى دولة ذات كثافة سكانية عالية.
وتكمن ميزتها النسبية فى التصنيع والخدمات وهذا هو المكان الذى جاء فيه الاستثمار المباشر مع شروع الحزب الشيوعى الحاكم فى تيسير تدفق الاستثمار الأجنبى، وسرعان ما اجتذبت منتجى الأحذية والملابس الجاهزة والأجهزة الإلكترونية التى تتطلب عمالة كثيفة رخيصة.
وساعد الاستثمار الأجنبى فى تطوير البلاد سريعاً مع خلق أكثر من 10 ملايين فرصة عمل بواسطة قطاع التصدير بعضها يقوم بالتصدير بشكل مباشر، لكن غالبية المجالات استفادت من التصدير بشكل غير مباشر. وبعبارة أخرى، توسعت سلاسل القيمة إلى الجزء الأسفل من الاقتصاد المحلى، فمثلاً انشغلت الشركات الفيتنامية وكثير منها شركات صغيرة ومتوسطة الحجم فى توفير قطع الغيار والخدمات للشركات الكبيرة التى تمثل معظم الصادرات.
والركيزة الرئيسية الثالثة هى الاستقرار المالى، وكانت الجهود تنصب على تخفيف معاناة ارتفاع التضخم منتصف الثمانينيات مع بداية خطط الإصلاح.
وكانت المشكلة الأساسية، هى أن القطاع العام «موحد»؛ حيث تسيطر الحكومة ومؤسساتها على النشاط الاقتصادى مما خلف عجزاً كبيراً لا يمكن تمويله عن طريق المدخرات المحلية أو المساعدات الخارجية.
وكانت الحكومة تطبع العملة وتوسع الائتمان المتدفق من البنك المركزى إلى المؤسسات الحكومية بمعدل كبير أدى إلى ارتفاع التضخم.
وخضعت الحكومة لتدخل جراحى لإنقاص عدد العمالة وقلصت على نطاق واسع القطاع العام بتسريح ملايين العمال مستغلة دور القطاع الخاص الذى يتوسع بسرعة كبيرة حتى تمت إعادة استيعاب العاطلين عن العمل بسرعة.
ومن أبرز علامات نجاح فيتنام خفض التضخم إلى أقل من %10 سريعاً، فمن الصعب بالنسبة لاقتصاد السوق أن يعمل بتضخم مزدوج الرقم «أعلى من %10»؛ لأن مستوى استقرار الأسعار فى الأسواق يصبح مشوشاً.
وساعد الإصلاح على ضبط سعر الصرف، أيضاً، مع الاستقرار المالى، فعندما بدأت خطط الإصلاح تدخل مرحلة التنفيذ لأول مرة، كان سعر السوق السوداء حوالى 10 أضعاف السعر الرسمى.
ويخلق ازدواج سعر الصرف حوافز قوية للفساد، فقام البنك المركزى، بشجاعة بتخفيض سعر الفائدة الرسمى وصولاً إلى مستوى السوق الموازى.
ويضمن سعر الصرف الحقيقى حصول المزارعين وغيرهم من المصدرين على عائد عادل ويعنى ذلك أيضاً أن الأجور المحلية كانت منخفضة جداً؛ حيث تم قياسها بالدولار الأمريكى، وكان ذلك عامل الجذب الرئيسى للمستثمرين الأجانب الأوائل.
وأدى تخفيض قيمة العملة بالإضافة إلى انخفاض التضخم إلى تشجيع البنك المركزى للحفاظ على سعر الصرف مستقراً نسبياً فى السنوات القليلة التالية، وهو أمر إيجابى أيضاً للمصدرين والمستثمرين المباشرين.
ويشير تقرير «بروكينجز» إلى أن ظروف دول كثيرة تحتاج لنموذج فيتنام مثل كوريا الشمالية والتى تتميز بوجود عدد أكبر بكثير من سكان المدن وعدد أقل من المزارعين وهو ما يجعلها فى حاجة إلى اتباع قواعد فتح المجال أمام المبادرة الخاصة وفتح الاقتصاد أمام التجارة الخارجية والاستثمار المباشر وتحقيق الاستقرار فى مستوى الأسعار مع تحديد سعر الصرف عند مستوى واقعى لتشجيع الصادرات.
مرحلة المساعدات الخارجية بدأت ببرنامج مسح أسرى للمجتمع
يمكن شرح نموذج فيتنام من خلال تفسيرات أخرى، فخلال الفترة من 1989 إلى 1994 التى شهدت تنفيذ إصلاحاتها الأكثر طموحاً كانت معزولة عن المجتمع الدولى، وتواجه حظراً تجارياً من الولايات المتحدة.
كما عانت من علاقات معادية مع جارتها اللدود الصين التى خاضت حرباً معها عام 1979؛ حيث عاشت فى عالم به عدد قليل من الأصدقاء بمجرد انهيار الاتحاد السوفيتى.
وكانت فيتنام عضواً فى البنك الدولى وصندوق النقد الدولى، ولكن لم يكن لديها دعم من المساهمين الرئيسيين لتوفير المساعدة المالية، ولكن ابتداءً من عام 1989 تم إعطاء المؤسستين الضوء الأخضر لبدء إرسال بعثات لإعداد دراسات عن الاقتصاد وتدريب المسئولين فى الوزارات الاقتصادية.
ومن بين أكثر الأشياء المفيدة التى قام بها البنك الدولى فى فيتنام مساعدة المكتب الإحصائى بإجراء مسح وطنى تمثيلى للأسر فى الفترة من 1991 إلى 1992 سمح بمراقبة الفقر والتقدم الاجتماعى بعناية منذ ذلك الحين.
وعندما بدأت هذه الدراسات وتقديم المساعدة التقنية فى 1989 لم يعتقد أحد أنها ستستمر لمدة خمس سنوات قبل أن تدخل فيتنام فى مرحلة تطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة لتبدأ فى الحصول على مساعدة مالية واسعة النطاق.
ويوجد العديد من الفوائد السريعة يمكن استخلاصها من هذه التجربة فمع بدء الاقتصاد الفيتنامى فى النمو بشكل جيد فى عام 1989 على الرغم من الحظر التجارى الأمريكى ونقص المساعدات الخارجية، تبين أن الإصلاح أكثر أهمية من المال.
وفى عام 1994 حصل مسئولو البنك الدولى على الضوء الأخضر لتقديم المساعدة المالية، لكن الحظ وقف بجانب «هانوى» على صعيد توقيت تدفق المساعدات الخارجية فخلال اجتماع لكبار مسئولى البنك الدولى مع رئيس الوزراء فو فان كيت فاجأ الحضور بالرأى القائل إنه من حسن الحظ أن فيتنام لم تحصل على مساعدة مالية فى وقت سابق؛ لأنها كانت غير مؤهلة لاستخدامها بشكل جيد.
وبحلول عام 1994 كان هناك ما يكفى من الإصلاح والنمو، وبدأت خطة مواجهة تردى اختناقات البنية التحتية التى أصبحت حادة فكان لديهم أول مشاريع لإعادة تأهيل الطرق والطاقة.
وتدفع هذه التجربة المؤسسات الدولية إلى دائرة كبيرة من النقاش الضرورى لاستكشاف فكرة توفير المساعدة المالية واسعة النطاق فى حال اعتماد الدولة المستلمة لسياسة اقتصادية ذات جودة عالية.
وهذه التجربة لها علاقة بدول ذات حالات مشابهة؛ لأنه سيكون من المنطقى إدخال البنك الدولى وصندوق النقد الدولى إليها فى البداية للتأكد من أن هناك خططاً إصلاحية بدأت تؤتى أكلها.
ويجب أن تثبت هذه الإصلاحات أن قيادة هذه الدول جادة للغاية بشأن الإصلاح.
ويجب أن ترحب هذه الدول بمهام الإعداد المسبق الذى قد يستغرق سنوات للحصول على مساعدة مالية فى وقت مناسب؛ للتأكد من أن الموارد تستخدم بشكل جيد وتفيد الشعوب الكادحة.
الاتفاقية الثنائية والدولية أعطت قبلة الحياة للقطاع الصناعى
تقدم معجزة التصنيع فى فيتنام دروساً للدول النامية، فاستخدام هاتف ذكى يعنى أن هناك فرصة جيدة للنظر إلى جهاز تم تصنيعه فى فيتنام، ففى جميع أنحاء العالم يتم إنتاج واحد من كل 10 هواتف ذكية فى ذلك البلد الآسيوى.
وتتصدر الهواتف المحمولة صادرات فيتنام؛ حيث تحقق عائدات تصدير تتجاوز 49.8 مليار دولار فى عام 2018.
هذا النجاح هو أحد أعراض الاتجاه الأوسع الذى يتحدى المعايير العالمية.
فى حين أن التجارة العالمية فى حالة ركود، ارتفعت صادراتها إلى 244 مليار دولار فى 2018. بينما يواصل قطاع الصناعات التحويلية السابق لأوانه نمو الاقتصاد العالمى بشكل مطرد، مضيفاً ما يقدر بنحو 1.5 مليون وظيفة صناعية جديدة بين 2014 و2016 وحده.
وبالنظر إلى الدعوة الأخيرة التى وجهها العديد من قادة العالم لإيجاد وظائف فى مجال التصنيع فى بلدانهم، فإن تجربة فيتنام تحمل دروساً للاقتصادات النامية والمتقدمة على حد سواء.
بعض الأساسيات مهمة بشكل واضح، فرغم ارتفاع الأجور نسبياً، فإنها لا تزال منخفضة مقارنة بالعالم، فضلاً عن وفرة العمالة فحوالى نصف السكان هم دون سن 35، وفيتنام لديها قوة عاملة كبيرة ومتنامية.
وتتمتع البلاد باستقرار سياسى واستفادات من أنها قريبة جغرافياً من سلاسل التوريد العالمية الرئيسية. لكن هذا ليس بالضرورة ما يميز فيتنام، فالأهم هو نجاح الحكومة فى الاستفادة من أسسها القوية من خلال سياسات جيدة.
وحققت فيتنام نجاحها فى مجال التصنيع بالطريقة الصعبة، ففى البداية احتضنت تحرير التجارة بحماس ثم استكملت عملية التحرير الخارجى بالإصلاحات المحلية من خلال رفع القيود وخفض تكلفة ممارسة الأعمال التجارية لجذب المصنعين الأجانب الكبار من فئة أديداس الألمانية للأحذية الرياضية، وهواوى الصينية لتكنولوجيا الهواتف المحمولة.
وأهم ما ركزت عليه فيتنام هو الاستفادة من كثافة رأس المال البشرى والمادى ويبقى أهم الدروس هو التكامل العالمى مع التحرير المحلى والاستثمار فى الناس والبنية التحتية والتى لا ترقى للطموحات المأمولة حتى الآن.
وقامت السياسة الصناعية لفيتنام على التعاون التجارى الخارجى؛ حيث لجأت على سبيل المثال إلى سنغافورة التى تحتل المرتبة الأولى فى شرق آسيا كونها عضواً فى اتفاقيات التجارة الحرة الثنائية والمتعددة الأطراف.
ووقعت فيتنام على 16 اتفاقية تجارة حرة ثنائية ومتعددة الأطراف، وباتت عضواً فى منظمة التجارة العالمية ومنظمة آسيان، وأبرمت اتفاقات ثنائية مع الولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية والاتحاد الأوروبى والاتحاد الجمركى الأوروبى الآسيوى. وأصبحت فى 2018 واحدة من 11 دولة للانضمام إلى اتفاقية تفاهمات التجارة عبر المحيط الهادى.
أدت هذه الاتفاقيات التجارية إلى خفض التعريفات بشكل كبير، وترسيخ الإصلاحات المحلية الصعبة، وفتحت الكثير من مسارات الاقتصاد للاستثمار الأجنبى.
وحش التكنولوجيا يلتهم أحلام الفيتناميين فى الدخل المرتفع
«فيتنام» هى واحدة من قصص النجاح الاقتصادى العظيمة فى القرن الواحد والعشرين حتى الآن، وقبل جيل واحد فقط، كانت البلاد واحدة من أفقر دول العالم، التى خيمت عليها عقود من الصراع واقتصاد خنقه نظام تخطيط مركزى.
وبعد 3 عقود من النمو السريع المستمر دون انقطاع، برزت فيتنام كاقتصاد متوسط الدخل مزدهر يخطو المستثمرون الأجانب إلى بابها، مطالبين بالمشاركة والمساهمة فى ازدهارها المتزايد.
ومع ذلك فإنَّ انتقال فيتنام إلى اقتصاد مزدهر وحديث هو مرحلة بدأت للتو؛ حيث يبلغ نصيب الفرد من الدخل فى فيتنام، حالياً، حوالى %40 فقط من المتوسط العالمى.
ولكى تصبح فيتنام دولة ذات دخل مرتفع بحلول عام 2045، ستحتاج للحفاظ على متوسط معدلات نمو لا تقل عن %7 على مدى السنوات الـ25 المقبلة، وهذا من شأنه أن يصل بنصيب الفرد من الناتج المحلى الإجمالى إلى حوالى 25 ألف دولار.
فى حين أن فيتنام لديها القدرة على تحقيق هذا الطموح، فبدون إصلاحات من المرجح أن تشهد البلاد تباطؤاً فى النمو، ما يعرقل طموحاتها.
وتعتبر شيخوخة السكان السريعة والإنتاجية الضعيفة أهم عقبات تعرقل نمو الاستثمار، وكلها عوامل تؤثر على إمكانات النمو على المدى المتوسط فى فيتنام.
ويخشى الخبراء أن العديد من الدوافع التى دعمت نمو البلاد فى الماضى سوف تتضاءل، خلال العقد المقبل، فالمكاسب من التحول الهيكلى مثل انتقال العمال من الزراعة ذات الإنتاجية المنخفضة إلى التصنيع عالى الإنتاجية والخدمات تسير فى طريقها لخط النهاية.
كما أن ارتفاع الأجور يعنى تآكل الميزة النسبية الحالية لفيتنام فى قطاعات منخفضة القيمة نسبياً وكثيفة العمالة من سلاسل القيمة العالمية والتى تجذب الاستثمار الأجنبى.
وتحتاج فيتنام، أيضاً، إلى التنقل فى أنماط التجارة العالمية المتغيرة والتقنيات الحديثة المدمرة لفرص العمل، والتى تعمل على إعادة تشكيل الفرص وتخلق مخاطر جديدة.
ونما حجم التجارة العالمية بأكثر من %3 سنوياً منذ عام 2012 وهو أقل من نصف المعدل المتوسط خلال العقود الثلاثة السابقة وفى الوقت نفسه يؤدى الاعتماد المتزايد لتقنيات التصنيع المتقدمة مثل الروبوت والطباعة ثلاثية الأبعاد والتصنيع الذكى فى الاقتصادات شحيحة العمالة إلى تفاقم المخاوف بشأن التنافس على الأجور.
وعلى سبيل المثال، تخطط شركة الملابس الرياضية «أديداس» للعودة لإنتاج المنتجات من خلال الطباعة ثلاثية الأبعاد فى بلدها ألمانيا وإغلاق مراكز التصنيع الخارجية بما فى ذلك فيتنام.
وتمثل هذه الاتجاهات تحديات لقدرة فيتنام على الاستمرار فى محاكاة نجاح اقتصادات النمور الآسيوية، ولكنها قد تخلق، أيضاً، فرصاً جديدة للحاق بالركب التكنولوجى بشكل أسرع وتحقيق قفزات كبيرة.
ويتثبت الواقع العملى خطورة هذه التحولات حسب نتائج أوائل المتبنين لتقنيات التصنيع الجديدة، فعلى سبيل المثال تحول إنتاج أجهزة السمع بشكل كامل تقريباً إلى الطباعة ثلاثية الأبعاد خلال العقد الماضى وعلى عكس التوقعات التقليدية كان هذا فى الواقع مرتبطاً بتوسع التجارة العالمية فى أجهزة السمع وزيادة الطلب.
4 أولويات لتحديث الاقتصاد سريع النمو
تفرض أحوال السوق العالمى 4 أولويات على فيتنام؛ لكى تنجو من فخ البقاء بين الدول ذات الدخل المتوسط.
أولاً، تسريع الاستثمار فى مجالات الإنتاج فلا يزال اقتصاد فيتنام شحيحاً نسبياً على صعيد رأس المال، وهذا يعنى أنه يمكن تحقيق الكثير من خلال زيادة إنتاجية القوى العاملة الوفيرة فى البلاد عبر الاستثمار فى البنية التحتية الإنتاجية والآلات والتكنولوجيا.
ويتطلب تحقيق ذلك خلق نظام مالى أكثر كفاءة يقلل من تكلفة التمويل ويخصص مدخرات فيتنام المحلية المهمة فى القطاع الخاص المنتج والاستثمار فى البنية التحتية، كما سيتطلب إزالة عوائق استثمارات القطاع الخاص للتخلص من المخاطر ورفع العوائد.
ثانياً، يجب على «هانوى» تشجيع خلق قوة عاملة منتجة تتمتع بمهارات القرن الحادى والعشرين؛ حيث يتطلب اقتصاد فيتنام لتحقيق سرعة التطور مجموعة جديدة وأكثر تعقيداً من المهارات وعمليات الإنتاج أكثر من الماضى.
ووفقاً لمؤشر البنك الدولى لرأس المال البشرى والذى صنف فيتنام فى المرتبة الـ48 من أصل 157 دولة، فإن إنتاجية الطفل المولود فى فيتنام هذا العام تستغل 67% فقط من إمكاناتهم بفضل التعليم والصحة الكاملين.وعلى الرغم من الإنجازات الملحوظة فى توسيع التحصيل العلمى والجودة، فإنَّ طفلين من بين كل ثلاثة أطفال يكملون المرحلة الثانوية وأقل من واحد من كل 10 عمال حاليين حاصلون على شهادة جامعية أو تدريب مهنى أى أن نسبة %90 من الطبقة العاملة لم يحصلوا عليها.
وأبلغت أكثر من نصف الشركات فى فيتنام عن صعوبة العثور على عمال مهرة، وهو ما يعنى حاجة فيتنام إلى دفعة إصلاحية كبيرة لبناء أنظمة تدريب مهنى شاملة للجميع وتنافسية وجامعات عالمية المستوى ليس فقط لضمان القدرة التنافسية، ولكن أيضاً لتمكين شعبها من المشاركة بشكل منتج فى الفرص التى يوفرها اقتصاد سريع النمو.
ثالثاً، تشجيع الابتكار لأنه أصبح محركاً أكثر أهمية لزيادة الإنتاجية سواء من خلال رفع مستوى العمليات والتكنولوجيات والمنتجات من قبل الشركات القائمة أو إدخال شركات ذات إنتاجية عالية وخروج الشركات ذات الإنتاجية المنخفضة، خاصة أن الفرص كثيرة للشركات فى فيتنام لتبنى المعرفة والتكنولوجيات الحالية.
وتعد حقوق الملكية الفكرية الآمنة والمنافسة التى توفر سهولة دخول الشركات والخروج منها، فضلاً عن الانفتاح على التجارة والاستثمار عناصر أساسية لتحفيز الابتكار بين الشركات.
وعلى سبيل المثال، يمكن لدمج فيتنام المتزايد فى سلاسل القيمة العالمية أن يكون بمثابة وسيلة لنشر التكنولوجيا والأفكار.
والأولوية الأخيرة وربما الأهم هى إصلاح عمل المؤسسات، فلا تزال الموروثات المؤسسية بما فى ذلك القطاع المملوك للدولة كبيرة بجانب مؤسسات السوق غير المكتملة والمناخ الاستثمارى المرهق، ما يعرقل تطوير القطاع الخاص فى فيتنام.
ومع استمرار اشتراك الدولة فى الأنشطة الإنتاجية وتخصيص الموارد، تظل الأسئلة المتعلقة بمجال التلاعب والتنظيم المستقل للأسواق وإطار المنافسة الفعال ذات صلة بدون إجابة شافية.
ومما يضاعف المشكلات وجود ذلك التجزؤ داخل مستويات الحكومة وعبرها وفجوات التنفيذ وضعف المساءلة.ومع بقاء نقاط الضعف فى الحكم دون معالجة فقد تصبح عقبة أمام النمو والنتائج الاجتماعية فى المستقبل.
تطوير البنية التحتية وبيئة الأعمال يجذب المستثمرين
استفادت فيتنام من العائد الديموجرافى من خلال الاستثمار الفعال فى مواطنيها عبر تعزيز الوصول إلى التعليم الابتدائى وضمان جودته من خلال معايير الجودة.
وفى أحدث برنامج لعام 2015 لمنظمة التعاون الاقتصادى والتنمية لتقييم الطلاب الدوليين (PISA) الذى يختبر طلاب المدارس الثانوية فى الرياضيات والعلوم وغيرها من التخصصات، احتلت فيتنام المرتبة الثامنة من أصل 72 دولة مشاركة، متقدمة على دول منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية مثل ألمانيا وهولندا.
كما ركزت «هانوى» جهودها بلا هوادة على دعم القطاع الصناعى بالقدرة التنافسية وسهولة ممارسة الأعمال، وأحرزت تقدماً مطرداً فى تحسين مناخها الاستثمارى، كما يتضح من الدرجات العالية فى مؤشر القدرة التنافسية للمنتدى الاقتصادى العالمى بزيادة خمس نقاط لتتقدم إلى المرتبة 55 فى العالم والمرتبة 68 لسهولة الأعمال، وفقاً للبنك الدولى لعام 2018 بعد أن كانت 99 فى عام 2014.
كما خفضت فيتنام معدل ضريبة دخل الشركات إلى %20 من %32 فى عام 2003.
كما استثمرت فيتنام فى البنية التحتية، وخاصة قطاع الطاقة والاتصال، ويعود الفضل فى جزء منه إلى زيادة الاستثمار العام وتوليد ونقل الطاقة وقدرة التوزيع لتلبية الطلب المتزايد بسرعة.
ولمواكبة التجارة سريعة النمو فى الحاويات والتى توسعت بمعدل سنوى مذهل بلغ %12.4 بين عامى 2008 و2016 طورت فيتنام، أيضاً، بنيتها التحتية المتصلة بما فى ذلك الموانئ البحرية والمحطات البحرية.
ولا يعد أبناء فيتنام من ذلك النوع الذى يكتفى بما تحقق ويجلس للاستمتاع بمجده؛ لأنهم يفضلون التعامل مع التحديات المتبقية.
وبشكل عام لا يزال قطاع الصناعات التحويلية فى فيتنام صغيراً نسبياً، فمعظم القطاع مدفوع بالاستثمار الأجنبى المباشر الذى يمثل ما يقرب من %90 من صادرات الصناعات التحويلية.
وتتطلب العديد من الوظائف التى تم إنشاؤها حديثاً فى مجال التصنيع عمالة يدوية، ولكنها لا تضيف بالضرورة الكثير من القيمة لكل عامل، فالروابط بين الاستثمار الأجنبى المباشر والشركات المحلية ضعيفة.
ويقدم الصعود الأخير لفيتنام إلى صفوف مراكز التصنيع العالمية دروساً حول إمكانات النمو لكنه، أيضاً، يكشف الحاجة إلى وضع برنامج كبير لتطوير الصناعات التحويلية الوطنية فى نهج تحذيرى من الاعتماد الكامل على الاستثمار الأجنبى.
لمتابعة أخر الأخبار والتحليلات من إيكونومي بلس عبر واتس اب اضغط هنا