لا يمكن أن يدور نقاش حول أن هوس الصين باستراتيجية «صفر كوفيد» هو مثال آخر فى القائمة الطويلة للدول التى تختار طواعية إلحاق الأذى الاقتصادى بالنفس سعياً وراء هدف مثالى لكنه غير قابل للتحقيق.
لا شك أن الملحمة الحالية محبطة للغاية بالنظر إلى أن الصين لديها كثيراً من الفرص لاستيعاب الدروس المستفادة التى تعلمها بشكل مؤلم بقية العالم، لكن ما يجعل سياسة وقف المد بأى ثمن مثيرة للاهتمام هو تأثيرها على مكانة البلاد باعتبارها جوهر النظام الاقتصادى فى آسيا.
هناك حجة مفادها أن الصين مهيأة لفقدان النفوذ الإقليمي- الاقتصادى والسياسى على حد سواء- نظراً لتسبب جهودها فى القضاء على كوفيد، خاصة ضوابطها الحدودية، فى مزيد من الانعزالية، فالحجم المطلق لدولة ما ليس ما يحدد نفوذها بل مدى اندماجها مع الدول الأخرى، وهذا التكامل هو الذى يسمح لأى بلد بنقل القوة الاقتصادية والسياسية على الصعيد الدولى.
من هذا المنطلق، إذا أصبحت الصين أقل اندماجاً نتيجة انعزاليتها الظاهرة، فإن النظام الاقتصادى فى المنطقة سيتكيف حتماً ليعكس جاذبيتها المنخفضة.
يشير مؤيدو هذا الرأى إلى تطورات مختلفة تشير إلى أن الدور الإقليمى للصين يتأثر باستراتيجيتها «صفر كوفيد».
يهتم المصنعون الأجانب بقدرتهم على إدارة عملياتهم والإشراف عليها فى ظل هذه الظروف، وقد أدى هذا إلى إعادة تقييم البعض لجاذبية الاستثمارات الجديدة فى البلاد، بينما حول البعض الآخر التصنيع إلى الجيران، بحسب مجلة «نيكاى آسيا ريفيو» البريطانية.
وبشكل أكثر وضوحاً، فإن السياح الصينيين غائبون عن مراكز التسوق فى سيول والمنتجعات الشاطئية فى تايلاند، مما يضر كثيراً بائعى التجزئة الكوريين وأصحاب الفنادق التايلانديين.
ويشير قرار عدم استضافة كأس آسيا للاتحاد الآسيوى لكرة القدم، الذى كان يفترض انعقاده فى الصين فى يوليو 2023، إلى أن الضوابط الحدودية فى البلاد ستستمر لعام آخر على الأقل.
من هذا المنطلق، سيسهل استنتاج أن النفوذ الإقليمى للصين قد ضعف، لكن كما هو الحال فى أحيان كثيرة، عندما يتعلق الأمر بالمناقشات حول الصين، فإن هذه الرواية تفتقر إلى الدعم التجريبى الشامل.
فى الواقع، رغم ضوابطها الحدودية الصارمة منذ بداية الوباء، ازداد النفوذ الاقتصادى للبلاد داخل المنطقة فعلياً خلال الأعوام الثلاثة الماضية، ولم يتراجع، وهذا يتجلى بشكل أوضح فى التدفقات التجارية فى المنطقة.
لقد نمت أهمية الصين كسوق لسلع جيرانها إلى مستويات عالية جديدة خلال الثلاثة أعوام الماضية، فقد أرسلت دول شرق وجنوب شرق آسيا %27 من إجمالى صادراتها إلى القوة العظمى الآسيوية فى عامى 2020 و2021، أى أكثر من %25 فى العامين السابقين.
وإذا أدرجت أستراليا ونيوزيلندا أيضاً، فيمكن القول إن الصين حصلت على %28 من إجمالى صادرات المنطقة فى عام 2021.
والأمر الأكثر وضوحاً هو أن أهمية الصين كشريك تجارى قد ازدادت حتى بالنسبة للدول الشريكة فى الجهود التى تقودها الولايات المتحدة لمقاومة نفوذها المتزايد، فهى تمثل الآن نسبة أكبر من إجمالى تجارة اليابان ونيوزيلندا مقارنة بما قبل الوباء.
أرسلت نيوزيلندا، على سبيل المثال، نحو ثلث صادراتها إلى الصين فى عام 2021، مقارنة بأقل من الربع فى عام 2018.
وحتى تايوان، وصلت حصة البر الرئيسى من إجمالى تجارتها إلى مستويات قياسية جديدة فى عامى 2020 و2021.
كذلك، يتجلى التفوق الإقليمى الراسخ للبلاد فى تدفقات رأس المال.
رغم كل الإثارة حول أن الصين أصبحت أقل جاذبية بالنسبة للمستثمرين، فإن الحقيقة هى أن البلاد جذبت بالفعل 181 مليار دولار من الاستثمار الأجنبى المباشر الداخلى العام الماضى.
بالإضافة إلى ذلك، شكلت الصين %28 من إجمالى الاستثمار الأجنبى المباشر فى آسيا فى عامى 2020 و2021، وهى أعلى نسبة منذ عام 2013، بينما بلغت حصتها من إجمالى الاستثمار الأجنبى المباشر الوافد العالمى فى نفس العامين المستويات التى شوهدت لآخر مرة فى التسعينيات.
فى الوقت نفسه، حلت الصين محل اليابان لتصبح أهم مصدر لرأس المال الاستثمارى فى المنطقة، حيث بلغ حجم الاستثمار الأجنبى المباشر المتجه للخارج نحو 300 مليار دولار خلال العامين الماضيين، متقدماً بشكل كبير على اليابان البالغة 242 مليار دولار ومضاعفات الهند البالغة 27 مليار دولار.
ثمة اتجاهات عديدة أخرى ذات صلة، مثل التركيز المتزايد لرأس المال الآسيوى والأسواق المالية فى الصين، فهم يسلطون الضوء فى المجمل على الجاذبية المتزايدة للدولة داخل المنطقة، وهذا الاتجاه طويل الأمد ظل مستمراً رغم إغلاق الحدود.
وبالرغم من أن عمليات الإغلاق الحالية قد تضعف مؤقتاً القوى العاملة عبر إبطاء الطلب المحلى والإنتاج الصينى، فسيكون من الخطأ الخلط بين الصدمة العابرة والديناميكيات الهيكلية طويلة الأجل التى ترسخ البلاد فى قلب النظام الاقتصادى فى آسيا.
بعد كل شيء، هناك ثلاث ديناميكيات ذاتية التعزيز عندما يتعلق الأمر بالجغرافيا الاقتصادية المستقبلية لآسيا.
تتمثل الديناميكية الأولى فى أن النشاط الاقتصادى الدولى هو فى الأساس نشاط إقليمى بطبيعته وليس عالمياً، والثانية فى أن معظم الأنظمة الاقتصادية تتكيف بشكل طبيعى مع هيكل محيطى مركزى جيد التحديد، مع تقسيم لاحق للعمل والتجارة، والثالث هى عدم وجود دولة آسيوية أخرى يمكنها منافسة وضع الصين كقوة اقتصادية.
يتوقع صندوق النقد الدولى، على سبيل المثال، أن تمثل البلاد %65 من إجمالى الناتج المحلى لشرق وجنوب شرق آسيا بحلول عام 2027، ارتفاعاً من %56 فى عام 2018.
لمتابعة أخر الأخبار والتحليلات من إيكونومي بلس عبر واتس اب اضغط هنا