إن التحدى الدائم الذى يواجه كل بلد هو ضمان ارتفاع مستويات المعيشة بمرور الوقت، حتى يتمكن البالغون اليوم من توفير فرص أفضل لأطفالهم مقارنة بما حصلوا عليه من قبل.
والمفتاح لارتفاع مستويات المعيشة هو تحسين الإنتاجية، أى زيادة الإنتاج من مستوى معين من الإمكانيات.
ولكن ثمة تحد ذى صلة، يتمثل فى ضمان تقاسم مكاسب الإنتاجية على نطاق واسع، ألا وهو أن يكون النمو شاملا.
إن الاقتصاديين الذين يقدمون المشورة للحكومات لديهم مجموعة أدوات من السياسات–الإصلاحات الهيكلية لتحرير التجارة والمنتجات والأسواق المالية–التى يوصون بها لتحقيق إنتاجية محسنة.
غالبًا ما يتم تصميم هذه الإصلاحات لإعطاء تأثير أكبر لقوى السوق والمشاريع الحرة فى الاقتصاد. ولكن من اللافت للنظر أن هذا النهج _ الذى يشار إليه بالنيو ليبرالى _ كان غائبا إلى حد كبير فى سياسات الإدارات الأمريكية الأخيرة.
فى عمل سابق، قمت أنا وزملائى بتوثيق حالة السبات العالمى للتحرر الاقتصادى منذ تسعينيات القرن العشرين.
لقد اطلعنا على القوانين الوطنية والمواقع الرسمية لتطوير تدابير الإصلاحات الهيكلية فى أسواق المنتجات والعمل والأسواق المالية.
ويشكل هذا الاستقرار تحولا ملحوظا عن العقود السابقة، وهو أمر مثير للقلق نظرا للصلة بين التحرير والإنتاجية، وضرورة النمو القوى لدعم التحولات الخضراء والديموغرافية.
ومن أجل استعادة زخم الإصلاح، فإن الأمر يتطلب جرعة من الشفافية بشأن ما يمكن أن يحققه التحرير وما لا يمكن أن يحققه.
وقد لاحظ البعض أن المؤسسات متعددة الأطراف، مثل صندوق النقد الدولى، أقل ميلاً إلى الضغط من أجل الإصلاحات فى منشوراتها الرئيسة، ويستنتجون أن هذا يعكس تراجع الحماس للإصلاح.
ليست هذه هى القضية. بل إنه يعكس مخاوف مشروعة من أن الإصلاحات لا تحظى بشعبية بين الناخبين، لكن الجواب لا يكمن فى توجيه اللكمات. بل هو بالأحرى قدر أكبر من الصراحة بشأن تأثير الإصلاح.
أولا، تستغرق الإصلاحات وقتا حتى تؤتى ثمارها. وقد لا تظهر المكاسب ذات المغزى إلا فى بيانات الاقتصاد الكلى على مدى خمس إلى عشر سنوات. ومثل هذا التأخر من شأنه أن يخلق مشاكل للحكومات التى تحتاج إلى مواجهة الناخبين فى إطار زمنى أقصر.
ثانيا، تشير الأدلة إلى أن عوائد النمو تعتمد على درجة الإصلاح. فخفض الحواجز الجمركية وغير الجمركية أمام التجارة، وتعزيز الحماية القانونية لحقوق الملكية، يحقق نتائج حقيقية، فى ظل إيمان الاقتصاديين بالتجارة الحرة ونظام المحاكم القوى.
وتبدو الفوائد الناجمة عن الإصلاحات الأخرى، مثل تحرير سوق العمل، على سبيل المثال، و تقليص نطاق المفاوضة الجماعية، وإلغاء القيود التنظيمية المفروضة على حركة رأس المال عبر الحدود، أقل قوة.
وثالثا، تعمل بعض الإصلاحات من خلال تحفيز عمليات إعادة تخصيص الموارد لتعزيز كفاءة الاستجابة للتحولات النسبية فى الأسعار. ومن المتأصل فى عمليات إعادة التخصيص هذه أن البعض سيربح، فى حين سيخسر آخرون. فحتى أقلية صغيرة من الخاسرين قد تؤدى إلى تقويض الإصلاح، كما أن الدعم الفاتر من الفائزين قد لا يغير النتيجة. وهذا يجعل السياسيين مترددين.
رابعا، بعض الإصلاحات ليست قادرة على إنتاج النمو الشامل، فعلى سبيل المثال، إلغاء القيود التنظيمية المالية، تؤدى إلى زيادة النمو وعدم المساواة. وفى مثل هذه الحالات، لا يكون النمو الشامل هو النتيجة.
خامساً، لابد من دمج العواقب الانتخابية المترتبة على الإصلاح فى نصائح خبراء الاقتصاد.
فى عملنا الأخير، قمت أنا وزملائى بدراسة كيفية تأثر الأصوات بالإصلاحات التى يتم تنفيذها خلال فترة ولاية الحكومة، مع التحكم فى مجموعة من العوامل الاقتصادية والسياسية التى تؤثر على النتائج الانتخابية.
وتؤكد النتائج أهمية تنفيذ الإصلاح فى وقت مبكر من ولاية الحكومة لتجنب ردود الفعل الانتخابية العنيفة.
وترتبط هذه النتيجة بتأخر مكاسب النمو من الإصلاحات فى مواجهة الخسائر التوزيعية المباشرة.
ويشير التحليل الانتخابى أيضًا إلى أهمية تنفيذ الإصلاح خلال الأوقات الاقتصادية الجيدة. ومن الصعب على الناخبين أن يجزموا ما إذا كان الانكماش راجعاً إلى الإصلاحات أم إلى شيء آخر، وقد ينسبون الركود إلى الإصلاح فى حين أن عوامل أخرى كانت مسؤولة عنه.
علاوة على ذلك، عندما تكون الأوقات جيدة، يصبح من الأسهل كثيراً بالنسبة للعمال الذين أصبحوا زائدين عن الحاجة فى القطاعات التى أصبحت غير مربحة حديثاً أن يجدوا وظيفة فى مكان آخر.
وتشير الأدلة أيضاً إلى ردة فعل انتخابية عكسية تجاه الإصلاحات التى تعمل على توليد قدر كبير من المقايضة بين النمو والمساواة، أى حيث تتسع فجوة التفاوت فى أعقاب الإصلاح.
لذا يجب العمل على إعداد تصميم دقيق لحزم التحرير لضمان عدم قيام المتضررين من الإصلاح بعرقلة الأجندة، ويعد الاهتمام بالتوقيت فيما يتعلق بالدورات الاقتصادية والسياسية أمرا ضروريا، وكذلك شبكات الأمان الكافية.
كاتب المقال: جوناثان أوسترى
أستاذ فى قسم الاقتصاد بجامعة جورج تاون
المصدر: فاينانشيال تايمز
لمتابعة أخر الأخبار والتحليلات من إيكونومي بلس عبر واتس اب اضغط هنا