منذ يناير 2016، عندما أنهت أسعار البترول عامين من التراجع الحاد، زادت أسعار الخام لأكثر من الضعف، ومن المعروف، أنَّ ارتفاع الأسعار أمر سيئ للدول المستوردة للبترول، وجيد للدول المنتجة، ولكن فى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا «مينا»، يمثل الارتفاع الأخير فى الأسعار اختباراً حاسماً للمستوردين والمنتجين على حد سواء، وسوف تحدد النتيجة المسار المستقبلى لاقتصاد المنطقة.
ومع ذلك، وفى السنوات الأخيرة، وخاصة منذ أن بدأت أسعار البترول التراجع فى 2014، عملت دول منطقة «مينا» على فطم المستهلكين والشركات عن الطاقة المدعمة، وتحديث وتنويع اقتصاداتها فى الوقت نفسه، وفى ظل ارتفاع أسعار البترول إلى مستويات أعلى، هناك خطورة بأن هذه الدول سوف تتحول إلى الإنفاق بإسراف، ما سيرفع احتمالات تراكم الديون.
والعودة إلى العادات القديمة خطير بشكل خاص؛ لأنه لا يوجد ضمان بأن أسعار البترول ستواصل الارتفاع أو حتى تظل مستقرة عند مستوياتها الحالية.
وبالتأكيد ستزداد الضغوط الصعودية على أسعار البترول؛ نتيجة النمو القوى فى الطلب العالمى على البترول، وإعادة فرض العقوبات على إيران من قبل الولايات المتحدة، وهبوط الإنتاج فى فنزويلا وأنجولا، ولكن الاستجابة السريعة لمنتجى الغاز الصخرى الأمريكيين للتغيرات فى السوق سوف يكون لها تأثير قوى يضبط الأسعار العالمية، وهو ما يعنى أن ذروة الأسعار فوق 100 دولار للبرميل والمشهودة فى 2014 لن تعود على الأرجح.
وعلاوة على ذلك، وبينما تسارعت وتيرة ارتفاع أسعار البترول فى نهاية 2016، عندما اتفق الأعضاء فى منظمة الدول المصدرة للبترول (أوبك)، وروسيا وقلة آخرون من المنتجين على خفض الإنتاج، فمن غير الواضخ إذا كانت القيود على الإنتاج ستستمر، وبالفعل ومع ارتفاع الأسعار، لن تشعر الدول الأعضاء فى «الأوبك» بالحاجة الملحة للالتزام بالقيود، وسوف تعزز الإنتاج، وهو ما سيؤدى بدوره إلى انخفاض الأسعار.
وكل ذلك يعنى أن التوقعات قريبة المدى لأسعار البترول غير يقينية، وهذا يعنى أن حكومات منطقة «مينا» التى استفادت من تراجع أسعار البترول لتقليل دعم الطاقة الذى يسبب لها عجزاً كبيراً فى الموازنة ينبغى أن تمضى قدماً بحذر، وسوف تتجاوز العواقب بعيدة المدى للتخلى عن الإصلاحات الحساسة والصعبة، المكاسب قصيرة المدى بكثير.
وحتى الآن، سوف تتسبب أسعار البترول العالمية فى ارتفاع الأسعار المحلية كذلك، إلا إذا استخدمت الحكومات الدعم للحد من تمرير التكاليف للمستهلك المحلى، ورغم أن هذا النهج قد يمنع الطلب من التراجع على المدى القصير، فإنه سوف يرفع مستويات الديون العامة، ويترك موارد أقل للاستثمار فى تمكين القطاع الخاص والتحول الاقتصادى الأوسع.
وحتى إذا اعتمدت الحكومات على خفض الإنفاق فى مجالات أخرى لتمويل الدعم، ستكون النتيجة النهائية سلبية، فعلى سبيل المثال، إذا خفضت الحكومات التحويلات إلى الأسر الفقيرة، فسوف تزيد الصعوبات على بعض أكثر فئات المجتمع ضعفاً، وبالنظر إلى ميل الأسر الفقيرة للإنفاق، فإنَّ هذه التخفيضات سوق تقلص الطلب المحلى الإجمالي، وهو ما سوف يترجم إلى ضعف فى النمو الاقتصادى، وخلق الوظائف فى دول تكافح لتوليد فرص عمل لعدد كبير من شبابها.
وباختصار، كلما حاولت الحكومة حماية المستهلكين من آثار أسعار البترول المرتفعة تزداد احتمالات خسارتها، وبدلاً من اتخاذ هذا المسار، يتعين على دول المنطقة، بادئ ذى بدء، أن تواصل العمل لزيادة كفاءة الاستثمار العام من خلال استكمال رفع دعم الوقود.
وينبغى على هذه الحكومات حينها استخدام مدخراتها للتوسع وتعزيز شبكات الأمان الاجتماعى، وهو ما سيحمى الفقراء، ويطلق العنان للديناميكية الاقتصادية المطلوبة لإعطاء الفقراء فرصة للهرب من الفقر، وفى الوقت نفسه، يتعين على الحكومات الاستثمار فى الإصلاحات الهيكلية لدعم تجدد القطاع الخاص وازدياد تنافسيته، وسن تنظيمات ذكية تجذب الاستثمار الخاص، وفى بعض الدول، يعنى ذلك إزالة العوائق التى تقف فى طريق تبنى البنية التحتية الرقمية وأنظمة الدفع الحديثة.
وسوف يؤدى الجمع بين ازدهار القطاع الخاص وشبكات الأمان الاجتماعى القوية إلى التشجيع على تحمل المخاطر وريادة الأعمال، وكلاهما محركان قويان للنمو طويل الأمد، وبالتالى فإنَّ ما تحتاجه دول المنطقة هو عدم المزيد من دعم الطاقة الذى يضغط على الموازنات.
بقلم: رابح أرزقي
كبير الاقتصاديين لشئون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا فى البنك الدولى
لمتابعة أخر الأخبار والتحليلات من إيكونومي بلس عبر واتس اب اضغط هنا