رئيس التحرير / أسامه سرايا | المشرف العام / خالد أبو بكر |
أخبار

فيلدا… حين تتحول الأرض إلى سياسة، والزراعة إلى مصير

فيلدا

في قلب التجربة التنموية الماليزية، تقف مزارع فيلدا (FELDA) بوصفها واحدة من أنجح النماذج التي جمعت بين الزراعة والعدالة الاجتماعية وإعادة هندسة الريف، ليس في آسيا فحسب، بل على مستوى العالم النامي بأسره. فقد نشأت فيلدا كفكرة جريئة لمعالجة الفقر الريفي، ثم تحولت عبر العقود إلى مؤسسة اقتصادية كبرى تركت أثرًا عميقًا في بنية المجتمع والاقتصاد الماليزي.

 1956 الفكرة التي وُلدت من أزمة

 تأسست فيلدا رسميًا في 1 يوليو 1956 بموجب قانون تطوير الأراضي، في مرحلة كانت فيها ماليزيا تواجه تحديات الفقر والبطالة وضعف استغلال الأراضي. وكان الهدف المركزي هو إعادة توطين الفقراء الريفيين الذين لا يملكون أراضي، ومنحهم فرصة التحول إلى مزارعين مستقلين قادرين على تحقيق دخل مستدام. وجاء التطبيق العملي سريعًا، إذ أُنشئت أول مستعمرة عام 1957 في منطقة إير لاناس بولاية كلنتان، حيث تم توطين 400 مستوطن على مساحة 1,680 هكتارًا، في تجربة سرعان ما تحولت إلى نموذج وطني.

 حين قررت الدولة أن توزّع الأرض بدل الإعانات

 اعتمد نظام مستوطنات فيلدا على هيكل دقيق ومنضبط. فقد كان يتم اختيار المستوطنين من الفقراء الريفيين، وغالبًا من فئة البومي بوتيرا، وتُخصص لكل أسرة قطعة أرض تتراوح بين 4 و6 هكتارات لزراعة المطاط أو النخيل. وخلال السنوات الأولى، يحصل المستوطن على راتب منتظم إلى أن تبدأ المحاصيل بالإنتاج. ويمر المستوطن بثلاث مراحل متدرجة: التعلم الجماعي ضمن تعاونيات، ثم العمل الفردي في الأرض، وأخيرًا الحصول على صك ملكية مقيد يمنع البيع دون موافقة فيلدا أو الحكومة، حفاظًا على الهدف الاجتماعي للمشروع.

المستوطن… من عامل بلا أرض إلى مالك بشروط

 اقتصاديًا واجتماعيًا، أحدثت فيلدا تحولًا جذريًا. فقد أسهمت في خفض معدلات الفقر الريفي من أكثر من 50% إلى أقل من 10% خلال العقود الماضية، وارتفع دخل المستوطنين تدريجيًا حتى وصل بحلول عام 2013 إلى مستويات تقارب دخول العاملين في القطاع الصناعي. وتمكنت فيلدا من تطوير أكثر من 900 ألف هكتار من الأراضي الزراعية، بينما تدير اليوم ما يزيد على 220 ألف هكتار، ويقطن مستوطناتها أكثر من 110 آلاف مستوطن.

 زراعيًا، بدأت فيلدا بزراعة المطاط، قبل أن تتحول منذ السبعينيات إلى التوسع الواسع في زراعة النخيل، وهو التحول الذي لعب دورًا محوريًا في جعل ماليزيا ثاني أكبر منتج عالمي لزيت النخيل. ولم تقتصر مساهمة فيلدا على التوسع المساحي، بل شملت تطوير التقنيات، وتقديم القروض، وبناء القدرات البشرية، ودعم البحث العلمي في هذا القطاع الاستراتيجي.

 حين توقفت المستوطنات… وبدأ التفكير التجاري

 ومع انتهاء مشاريع الاستيطان الكبرى بحلول التسعينيات، توقفت فيلدا عن قبول مستوطنين جدد، نتيجة اكتمال الأهداف الأساسية، وتحول الاقتصاد الماليزي نحو الصناعة والخدمات. وفي عام 1996، تحولت فيلدا إلى هيئة مستقلة ماليًا، وبدأ دورها يتغير من مجرد جهة زراعية إلى فاعل اقتصادي وتجاري متكامل. وتجسد هذا التحول بإنشاء شركة FGV Holdings Berhad، التي أصبحت من أكبر شركات زيت النخيل في ماليزيا، وتدير أنشطة الإنتاج والتصنيع والتصدير، إلى جانب استثمارات في قطاعات متعددة.

في السنوات الأخيرة، واصلت فيلدا التطور عبر تنويع المحاصيل، وعلى رأسها زراعة الأناناس (MD2) الذي حقق نجاحًا في الأسواق الدولية، كما أطلقت برامج تطوير المزارعين (PPP) التي تجمع بين الدعم المالي والتدريب المتخصص، وتعزيز الأمن الغذائي. وتشمل برامجها قروضًا ميسرة للزراعة والسكن والتعليم، إضافة إلى تدريبات في ريادة الأعمال، وورش تحليل الإنتاجية، وبرامج مراقبة الأداء الزراعي، مع تطبيق تقنيات حديثة مثل الزراعة الدقيقة والأنظمة الذكية.

  منظومة تنموية شاملة

ورغم ما تواجهه فيلدا من تحديات، أبرزها تقلب أسعار زيت النخيل وارتفاع تكاليف الإنتاج والحاجة المستمرة لتطوير المهارات، فإن التجربة أثبتت قدرتها على التكيف والاستدامة. فقد نجحت في الانتقال من مشروع اجتماعي محدود إلى منظومة تنموية شاملة تجمع بين الزراعة والصناعة والتجارة.

إن تجربة فيلدا ليست مجرد قصة نجاح زراعي، بل نموذج عملي لكيف يمكن للدولة أن تستخدم الأرض كأداة للعدالة الاجتماعية، وكيف يمكن للتنمية الريفية أن تتحول من عبء اقتصادي إلى رافعة للنمو والاستقرار. ولهذا، ظلت فيلدا مصدر إلهام لدول عديدة في آسيا وأفريقيا تسعى إلى تقليص الفقر وتحقيق الأمن الغذائي وبناء مستقبل أكثر توازنًا وعدالة.

لمتابعة أخر الأخبار والتحليلات من إيكونومي بلس عبر واتس اب اضغط هنا

الأكثر مشاهدة

النفط يصل لأعلى مستوياته منذ شهر وسط توقعات بارتفاع الطلب

استقرت أسعار النفط اليوم الخميس لتقترب من أعلى مستوى في...

محمود محي الدين: الاستثمارات الأجنبية المباشرة بالبلدان النامية تراجعت 60%

قال محمود محيي الدين، مبعوث الأمم المتحدة الخاص لتمويل خطة...

منطقة إعلانية