ملفات

كيف تؤثر تكاليف حرب أوكرانيا على روسيا؟

الروسى

سجلت بعض العملات، أداء أسوأ من الروبل الروسى العام الماضى، وأصبح الدولار الأمريكى يعادل ما يزيد قليلاً عن 60 روبل فى سبتمبر 2022، ثم ارتفعت قيمته إلى نحو 100 روبل فى الوقت الراهن.

وهذا الانخفاض يشكل ضربة رمزية للروس العاديين، الذين يربطون العملة القوية بالبلد القوى، وهو سبب للتوترات فى الدولة الروسية.

فقد أفسد هذا الانخفاض الاتفاق الذى كان قائمًا بين صُناع السياسات الروس خلال العام الماضى، عندما شهد العمل بين البنك المركزى ووزارة المالية حالة من التناغم. لكن المؤسستان تنقلبان الآن ضد بعضهما البعض مع ارتفاع التضخم وتباطؤ النمو.

كما أصبحت قدرة البلاد على شن الحرب بفعالية «على المحك».

خلال مراحل الصراع الأولى، كان لدى المسؤولين الروس مهمة واضحة، ألا وهى منع تدهور الاقتصاد، ثم زادت المهام بعد بدء الحرب الروسية الأوكرانية مباشرة لتشمل تطبيق ضوابط رأس المال ومضاعفة أسعار الفائدة لمنع الناس من سحب أموالهم من النظام المالى.

ووصل الروبل الروسى إلى 135 مقابل الدولار الأمريكى قبل أن يتعافى، وتدهور الوضع الاقتصادى ثم تحسن.

وبعد ذلك، قامت وزارة المالية بتمويل العرض من خلال الإنفاق بشكل سخى على قطاع الدفاع والرعاية الاجتماعية، وذلك بفضل الإيرادات الهائلة المجمعة من مبيعات البترول والغاز، حسبما ذكرته مجلة «ذا إيكونوميست» البريطانية.

فى الوقت نفسه، أسهمت صادرات البترول والغاز القوية فى رفع قيمة الروبل، مما خفض أسعار الواردات وبالتالى التضخم، وهذا سمح للبنك المركزى بتعزيز التوسع المالى، وخفض أسعار الفائدة إلى أقل مما كانت عليه عشية شن الحرب.
وخلال عام 2022، ارتفعت أسعار المستهلك بنسبة %14 وانخفض الناتج المحلى الإجمالى الحقيقى بنسبة %2، وهو أداء ضعيف، لكنه أفضل بكثير مما توقعه المتنبئون.
كما لفت الرئيس الروسى فلاديمير بوتين، الانتباه مؤخرًا، إلى أن «مرحلة تعافى الاقتصاد الروسى انتهت».
يواجه المسؤولون خيارات صعبة بسبب المرحلة الجديدة من الحرب الاقتصادية، إذ ترغب وزارة المالية الروسية فى دعم اقتصاد البلاد مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية المقررة فى مارس.
وأفادت وكالة أنباء «بلومبرج» أن روسيا تعتزم زيادة الإنفاق الدفاعى من %3.9 إلى %6 من الناتج المحلى الإجمالى.
كما تريد وزارة المالية زيادة الإنفاق على الضمان الاجتماعى.
يحرص بوتين على إدارة الاقتصاد على قدم وساق، إذ أشاد مؤخرًا بتراجع معدلات البطالة إلى مستويات غير مسبوقة فى روسيا، واصفاً هذا التراجع بأنه «أحد أهم المؤشرات التى توضح مدى فعالية سياستنا الاقتصادية برمتها».
مع ذلك، لم يعد البنك المركزى حريصًا على المساعدة، علمًا بأن المشكلة تبدأ من الروبل الذى ينخفض جزئيًا بسبب سحب رجال الأعمال أموالهم من البلاد.
ويشكل تقلص قيمة الصادرات مشكلة أيضًا والتى نتجت عن انخفاض أسعار البترول فى معظم أوقات العام الحالى.
وفى الوقت نفسه، وجدت روسيا مصادر جديدة لكل شيء، بدءًا من الرقائق الإلكترونية إلى المشروبات الغازية، وأدى ارتفاع الواردات الناتج عن ذلك إلى زيادة الطلب على العملات الأجنبية.. الأمر الذى خفض قيمة الروبل.
تعمل العملة المتراجعة على تعزيز التضخم الروسى، وسط ارتفاع تكلفة هذه الواردات، وكذلك الحال مع التحفيز المالى نفسه، كما حذرت محافظة البنك المركزى الروسى إلفيرا نابيولينا فى بيان صدر مؤخراً.
وارتفعت أسعار المستهلك بنسبة %5.5 منذ بداية العام وحتى سبتمبر، مقارنة بـ%4.3 فى يوليو.
ثمة علامات أيضًا على «تأثيرات ثانوية»، إذ يؤدى التضخم الحالى إلى مزيد منه فى المستقبل. و تجاوز نمو الأجور الاسمية حاجز الـ%50 من معدل ما قبل الجائحة، حتى مع ضعف نمو الإنتاجية.
يذكر أن الأجور المرتفعة تؤدى إلى زيادة تكاليف الشركات، والتى ستُمرر على الأرجح فى هيئة أسعار أعلى، كما أن توقعات التضخم تتزايد.
وهذا أجبر نابيولينا على التصرف، فقد صدم البنك المركزى الأسواق فى أغسطس بعد أن رفع أسعار الفائدة بمقدار 3.5 نقطة مئوية، ثم بنقطة مئوية أخرى بعد شهر، على أمل أن تجذب أسعار الفائدة المرتفعة المستثمرين الأجانب لشراء الروبل.
كما أن رفع تكلفة الاقتراض سيؤدى أيضًا إلى تثبيط الطلب المحلى على الواردات، لكن أسعار الفائدة المرتفعة تخلق مشاكل لوزارة المالية.
فى الوقت نفسه، يشير تباطؤ النمو الاقتصادى إلى بطالة أكثر وارتفاع أقل فى الأجور.
كما يؤدى ارتفاع أسعار الفائدة إلى ارتفاع تكاليف الاقتراض، مما يضر بأصحاب الرهن العقارى وكذلك الحكومة نفسها.
وفى ديسمبر الماضى، قررت وزارة المالية أن الاعتماد بشكل أكبر على الديون ذات الفائدة المتغيرة فكرة جيدة، فى وقت بدأت فيه تكاليف الاقتراض الارتفاع، ثم ألغت فى أغسطس مزاداً مخططاً لمزيد من الديون وعيًا منها بارتفاع أسعار الفائدة.
يود بوتين، إيجاد حل لهذه المشكلة يدافع من خلاله عن الروبل دون الحاجة لرفع أسعار الفائدة بشكل أكثر، لذلك طلب من صُناع السياسة إيجاد حلول إبداعية.
ومن هذا المنطلق، يجرى استكشاف فكرتين رئيسيتين، وهما إدارة العملة وتعزيز صادرات الطاقة، لكن لا يبدو أن أى منهما سيجدى نفعًا.
لنبدأ بالعملة، إذ تحرص الحكومة على إلزام المصدرين بتقديم مزيد من العملات الأجنبية وتُصعب مغادرة الأموال للبلاد.
فى أغسطس، بدأ المسؤولون إعداد «مبادئ توجيهية» من شأنها أن «توصى» الشركات بإعادة ليس فقط عائدات البيع، بل أيضاً توزيعات الأرباح والقروض الخارجية.
وفى 20 سبتمبر، أشار نائب وزير المالية الروسى أليكسى مويسيف، إلى أن ضوابط رأس المال يجرى النظر فيها لوقف التدفقات إلى كل بلد، حتى تلك التى تعتبر «صديقة».
هذه التدابير غير كاملة فى أحسن الأحوال، حيث تشكل صناعات التصدير الروسية جماعات ضغط قوية.
تعليقًا على الأمر، قال فلاديمير ميلوف، نائب وزير الطاقة فى أيام بوتين الأولى، إن تجربة الـ18 شهرًا الماضية توضح أن الشركات التى تهيمن على قطاعات الطاقة والزراعة والتعدين ماهرة فى سد الثغرات فى ضوابط العملة.
هناك العديد من الإعفاءات والاستثناءات، فقد أصدر بوتين فى أواخر يوليو مرسوماً يسمح للمصدرين الذين يعملون بموجب اتفاقيات حكومية، التى تغطى حصة كبيرة من التجارة مع الصين وتركيا وغيرهما، بالاحتفاظ بالعائدات فى الخارج.
حرب أهلية
الكرملين يرغب أيضًا فى خلق طلب مصطنع على الروبل عبر إرغام الآخرين على دفع ثمن صادرات روسيا بالعملة المحلية، لكن يبدو أن محافظى البنوك المركزية يعتقدون أن هذه الخطة غبية تمامًا.
وأشارت نابيولينا فى خطاب ألقته فى 15 سبتمبر، إلى أنه «خلافًا للاعتقاد السائد»، فإن تكوين العملة لمدفوعات التصدير ليس له «تأثير ملحوظ» على أسعار صرف العملات.
الشيء الوحيد الذى يتغير هو توقيت التحويل، وإما أن يستخدمها المُصدر الذى يدفع بالدولار لشراء الروبل، أو يشترى العميل الروبل بنفسه.
والأمر الذى قد يساعد روسيا أكثر هو دفع ثمن مزيد من وارداتها بالعملة المحلية لتوفير النقد الأجنبى، ومن ثم احتفاظ البائعين الأجانب بتلك الروبلات، لكن ليس هناك سوى علامات قليلة على إمكانية حدوث ذلك.
ربما تفكر روسيا فى استخدام احتياطياتها الأجنبية للتدخل فى أسواق العملات، بالرغم من أن أكثر من نصف احتياطياتها البالغة 576 مليار دولار، الموجودة فى الغرب مجمدة.
فى الوقت نفسه، يصعب استخدام بقية الاحتياطى الأجنبى للبلاد نظرًا لخضوع معظم المؤسسات الروسية لعقوبات تضعف قدرتها على إجراء المعاملات، حسب صوفيا دونيتس، مسؤولة سابقة فى البنك المركزى الروسى.
فيما لا تستطيع الاحتياطيات المتاحة للبلاد، والتى تقلصت بنسبة %20 منذ ما قبل الحرب، الدفاع عن الروبل إلا لفترة قصيرة بأى حال.
بعيداً عن رفع أسعار الفائدة، فإن الطريقة الوحيدة العملية لدعم الروبل تتلخص فى تعزيز صادرات الطاقة.
من الناحية النظرية، هناك عاملان يعملان لصالح روسيا، أولهما هو ارتفاع أسعار البترول، فمنذ يوليو ساعدت قيود الإنتاج التى فرضتها السعودية وتراجع المخاوف من الركود العالمى فى رفع سعر خام برنت بنحو الثلث إلى 97 دولار للبرميل.
والعامل الثانى يتمثل فى تضييق الفجوة بين سعر خام الأورال، الخام الرئيس فى روسيا، وخام برنت، من 30 دولار فى يناير إلى 15 دولار اليوم، وستستمر هذه الفجوة فى التقلص على الأرجح.
ومنذ ديسمبر، حظرت دول مجموعة السبع شركات الشحن وشركات التأمين التابعة لها من المساعدة فى نقل الوقود إلى الدول التى لا تزال تشتريه إلا إذا تم بيعه بأقل من 60 دولار للبرميل.
وكان رد فعل روسيا هو بناء أسطول الظل من ناقلات يملكها وسطاء فى آسيا والخليج، واستخدام الأموال الحكومية لتأمين الشحنات.
لكن عائدات صادرات البترول الروسية لن ترتفع على الأرجح إلى مستويات أعلى، وقد يؤدى ارتفاع الأسعار إلى انخفاض الاستهلاك فى الولايات المتحدة، كما يبدو أن تعافى الصين من سياسة «صفر كوفيد» قد انتهى.
ويقدر ريد لانسون، من شركة البيانات «كبلر»، أن الولايات المتحدة والبرازيل وغيانا قد تزيد سويًا إنتاجها بمقدار 670 ألف برميل يوميًا العام المقبل، وهو ما يعوض ثلثى التخفيضات الحالية للسعودية.
تشير أسواق العقود الآجلة إلى أن الأسعار ستنخفض خلال معظم 2024.
ورغم أن روسيا يمكن أن تصدر مزيدًا من البترول للتعويض عن ذلك، فإن القيام بذلك سيسرع مستوى الانخفاض.
ثمة نبأ سئ الآخر بالنسبة لروسيا هو أنها بات لزاماً عليها الآن كسب مزيد من البترول للحفاظ على ثبات إجمالى عائدات صادراتها، نظراً لانحدار مبيعات الغاز بعد إغلاق خط أنابيبها الرئيسى المتجه إلى أوروبا.
كانت هذه المبالغ ضئيلة للغاية فى الأسبوعين الماضيين حتى 19 سبتمبر الماضى، إذ بلغت 73 مليون يورو (أى ما يعادل 77 مليون دولار) مقارنة بـ290 مليون يورو العام الماضى.
هذا كله يعنى أنه مع استمرار متاعب التضخم فى روسيا، فإن الصراع بين الحكومة والبنك المركزى سيزداد حدة.
لا شك أن الإسراف فى الإنفاق قبل الانتخابات الرئاسية المقررة العام المقبل سيؤجج التوترات، مما يجبر البنك المركزى إما على رفع أسعار الفائدة إلى مستويات منهكة أو التخلى عن المعركة، وبالتالى تصاعد معدلات التضخم.
وبدلاً من ذلك، يمكن أن يخفض بوتين الإنفاق العسكرى، لكن خططه لعام 2024 تظهر أنه ليس لديه اهتمام كبير بالقيام بذلك.
فكلما طالت حربه، زاد عدد المعارك التى سيتعين عليه خوضها داخل بلاده.

لمتابعة أخر الأخبار والتحليلات من إيكونومي بلس عبر واتس اب اضغط هنا

الأكثر مشاهدة

النفط يصل لأعلى مستوياته منذ شهر وسط توقعات بارتفاع الطلب

استقرت أسعار النفط اليوم الخميس لتقترب من أعلى مستوى في...

صندوق النقد: مستمرون في دعم مصر ولم نحدد موعد المراجعة المقبلة

أكدت المتحدثة باسم صندوق النقد الدولي، جولي كوزاك، خلال مؤتمر...

منطقة إعلانية