هناك طبيب يعالج مريضاً بمرض مزمن ويزداد ضعفا، وأصبح العلاج المستمر منذ فترة طويلة أقل فاعلية بل وظهرت له أعراض جانبية مضرة.
ويوجد بالفعل علاج أفضل ولكنه غير متوفر فى مشفى الطبيب الجديد.
وفى المشافى التى يوجد بها العلاج، الأطباء منشغلون للغاية لدرجة ألا يعيروا اهتماما بهذه الحالات.
والطبيب الجديد هو كريستين لاجارد، الرئيس السابق لصندوق النقد الدولى، والتى تحظى بإعجاب كثيرين، والتى ستخلف قريبا ماريو دراجى، فى رئاسة البنك المركزى الأوروبى، وسيكون التحدى أمامها هو تجنب عقد آخر من النمو الضعيف وغير الشمولى بالقدر الكافى فى منطقة اليورو، وسيتحدد إرثها وكذلك إرث دراجى وفقا لمدى تحسن المريض تحت رعايتها، وإذا كانت ستستطيع إقناع حكومات منطقة اليورو بتقديم العلاج المطلوب.
ولا يوجد شك كبير فى أن الاقتصاد الأوروبى يفقد زخمه، واصطدم التشخيص مفرط التفاؤل بشأن الارتفاع المتزامن فى النمو العالمى أخيرا، بالواقع الكئيب المتمثل فى أن الرياح المعاكسة الهيلكية والدورية قوضت النشاط الاقتصادى، وتراجع الإجماع السابق على أن النمو سيبلغ %2 فى 2019 ويقترب الآن من %1 وربما يقل عن ذلك.
وما ينقص أوروبا الآن هو الإدراك الأوسع بأن القارة مهددة بالمعاناة من ما يطلق عليه الاقتصاديون «النمو بسرعة تقترب من الصفر».
وفى مثل هذه الحالة سيظل النمو إيجابيا، ولكنه لن يكون كافيا للتكيف مع متطلبات القوى الأخرى وهى المديونية المفرطة، وارتفاع الطلب على الخدمات الاجتماعية، والحاجة إلى بنية تحتيه أفضل وازدياد الغضب الشعبى والاستقطاب السياسى والتهميش.
وعلاوة على ذلك، قد يقع تطور آخر كان يعتقد سابقا أنه غير ممكن والذى من شأنه أن يضر بسلامة النظام السوقى.
فعلى سبيل المثال، أسعار الفائدة السلبية فى أوروبا من غير المرجح أن تنعكس قريبا. والأسوأ أنه فى الاقتصاد الذى يعانى مشكلات هيكلية بالفعل، لم يتعرض الأوروبيون بشكل كامل لتأثيرات التوترات التجارية العالمية التى أضرت بشكل خاص بالصناعات المعتمدة على التصدير فى ألمانيا.
ورغم هذه التطورات السلبية، تواصل السلطات الأوروبية الاعتماد على استجابة واحدة وهى السياسة النقدية غير التقليدية التى تتضمن فائدة سلبية ومشتريات واسعة النطاق للأوراق المالية (أو ما يعرف بالتيسير الكمى).
وبالتأكيد كان هذا النهج ناجحا فى احتواء أزمة الديون التى هددت الاتحاد النقدى والعملة الموحدة فى بداية العقد، لكنها أصبحت غير فعالة بشكل متزايد فى تعزيز النمو الاقتصادى المستدام.
وتزداد المخاوف من الاعتماد الطويل لـ»المركزى الأوروبى» على نفس العلاج القديم حتى داخل المركزى نتيجة الوعى المتزايد لتأثيرات الفائدة السلبية، ومن بينها تقليل توافر خدمات الحماية المالية طويلة الأجل (مثل منتجات التأمين على الحياة والتقاعد) للأسر الأوروبية.. وبالتالى تهديد الأمن الاقتصادى، كما أنها تشجع على التحمل المفرط للمخاطر وهو ما يمكن أن يقود إلى عدم استقرار مالى فى المستقبل، كما أنها تشجع التخصيص غير الكفء للموارد عبر الاقتصاد الأوسع.
وسيجد «المركزى الأوروبى»، أنه من الصعب بشكل متزايد الاستمرار فى هذه السياسة فى وجه الشكاوى والضغوط السياسية المتنامية، ولكن لا يمكنه ببساطة الوقوف بلا حراك بالنظر إلى التدهور فى الاقتصاد الأوروبى.
وفى الوقت نفسه لن يتمكن من دراسة خيار إنهاء السياسات غير التقليدية المطبقة خلال العقد الماضى، لأن ذلك سيزيد مخاطر الاضطرابات الاقتصادية والمالية على الفور.
ويمكن حل معضلة الخسارة الثلاثية لدى «المركزى الأوروبى» من خلال نهج شامل داعم للنمو على المستويين الوطنى والإقليمى، ويتضمن تدابير ليست متوفرة لدى البنوك المركزية، ويتعين على الدول الأوروبية تطبيق إصلاحات هيكلية أعمق، بما فى ذلك تحديث البنية التحتية، وإعادة توجيه وتدريب العمالة لتعزيز إنتاجية رأس المال والعمالة على حد سواء.
كما يتعين عليهم تطبيق المحفزات المالية قدر المستطاع.
أيضا، عليهم تقليص المديونية الكبيرة التى تخنق محركات النمو القائمة وتعوق ظهور محركات نمو جديدة. وعلى المستوى الإقليمى تحتاج أوروبا إلى توسيع وتحسين هيكلها السياسى على الأقل من خلال استكمال الاتحاد المصرفى، وحل الاختلافات القائمة منذ وقت طويل حول الاتحاد المالى.
ويكمن الأمل الآن فى أن «لاجارد « بخليطها الاستثنائى من مهارات التعامل مع الآخرين، وشبكة معارفها من الخبراء وخبرتها السياسية الوطنية والدولية، ستتمكن من بدء التحول الذى تحتاجه أوروبا، ويعد التحدى أمامها فى الإرادة السياسية وليست الإدارة، وتثبت انجازات لاجارد فى الآونة الأخيرة فى صندوق النقد الدولى – حيث سلطت الضوء على التداعيات الاقتصادية للتحيز على أساس النوع والتغير المناخى – أنها قادرة على قيادة التغيرات المطلوبة.
وهذا لا يقلل من حجم وتعقيدات التحديات التى واجهت دراجى.. بل إنها حقيقية وأصبحت مترسخة بعمق فى هيكل الاقتصاد السياسى الأوروبى.
ومع ذلك، فإن هذه التحديات يمكن التغلب عليها، ولدى «لاجارد» مجموعة المهارات المناسبة بشكل فريد لمنصبها الجديد، كما أنها تأخذ زمام الأمور فى الوقت المناسب تماما لأوروبا لإجراء التغيرات المطلوبة لتجنب عقد آخر ضائع، وسوف يكون إرثها مرتبط بإرث دراجى الذى طغت التهديدات المتجددة بالركود وعدم الاستقرار المالى على وعده الشجاع فى 2012 لفعل «ما يتطلبه الأمر» لإنقاذ اليورو.
بقلم: محمد العريان
لمتابعة أخر الأخبار والتحليلات من إيكونومي بلس عبر واتس اب اضغط هنا