ملفات

أمريكا الفقيرة.. الوجه الآخر للقوة العظمى

الفقر

وجود الفقر لم يقوض الحلم الأمريكى، لكن استمراره يهدده فيما تبدو برامج الأمان الاجتماعى غير كافية على الرغم من أن مشكلة الفقر قد تطورت.
وتفاقمت الأمراض المزمنة المصاحبة للفقر وهناك خطر جديد، فبسبب ازدياد عدم المساواة فى الدخل وتكاليف الإسكان ينتقل الفقر من المدن إلى الضواحى حيث يستوطن فى بؤر غير مرئية لأنها أقل ظهوراً فتنعتش معها ظواهر إدمان المخدرات الأفيونية والجريمة.
مكافحة هذه المشكلة التى تلوح فى الأفق ليست فى صلب أي أجندة سياسية سواء الجمهوريين أو الديمقراطيين وسط حالة من تبادل الاتهامات وإلقاء الذنب على توحش الرأسمالية أو إتهام الآخر بالشعبوية، وهذا مؤسف ولا يؤدى سوى لهزيمة الذات. وتُظهر مجموعة كبيرة من الدراسات الاقتصادية والاجتماعية أن الأطفال الفقراء الذين يكبرون فى مناطق الفقر المركزة لديهم نتائج حياة أسوأ بكثير مع تدنى دخلهم وتدهور صحتهم وأصبحت حياتهم الأسرية شبه ميتة. وتحاول شبكة الأمان إيقاف هذه الدورة التى أصلت لظاهرة توريث العوز عبر الأجيال.
استراتيجية بلاد «العم سام» لحل أزمة الفقر
لا يزال بإمكان السكان المسنين فى مدينة إينز الأمريكية بمقاطعة مارتن فى ولاية كنتاكى أن يتذكروا بوضوح اليوم الذى جاء فيه الرئيس الأمريكى إلى المدينة قبل 55 عاماً.
وفى صورة شهيرة تداولتها الصحف المحلية وقف الرئيس ليندون جونسون فى شرفة منزل الشاب توم فليتشر، وهو عامل أبيض بلا عمل يتعلم القليل من أطفاله الثمانية أطفال حيث أجرى معه حواراً مطولاً.
وفى خطبته التى ألقاها حينئذ أعلن الحرب على الفقر وقال جونسون: «لقد دعوت إلى حرب وطنية على الفقر، وهدفنا النصر التام».
صنع هذا الإعلان من صورة «فليتشر» ومقاطعة «مارتن» دون قصد رمزاً لمعركة الأمة بل إن غضب السكان المحليين تصاعد من رحلات الحج المتكررة من الصحفيين والمصورين إلى هذه المنطقة الفقيرة.
ولم تتغير القصة كثيراً واستمر فليتشر فقيراً على مدى عقود حتى وفاته عام 2004 وواصل أفراد عائلته الصراع مع الإدمان والسجن.


ماذا عن سائر مقاطعة مارتن؟ إلى اليوم هي فقيرة للغاية حيث يعيش 30% من سكانها تحت خط الفقر الرسمى «دخل يقل عن 2100 دولار لعائلة مكونة من أربعة أفراد ما يعادل 35 ألف جنيه مصرى تقريباً».
وبالنظر إلى حال المدينة فهى تعاني من بنية تحتية غير مطابقة للمواصفات فالطرق المؤدية إلى الجبال فى حالة حرجة مذهلة وكانت فى يوم من الأيام مستخدمة لنقل الفحم لكن الحركة عليها باتت الآن هادئة بسبب تصدعها إلى حد التموج ومشاكل التلوث بسبب تسرب أنابيب المياه تعنى أن بعض أجزاء المقاطعة بدون مياه جارية لعدة أيام.
وتشكو باربين وهى أحد السكان المتحمسين لإجراء إصلاحات أن المياه تصل إليهم باللون البرتقالى والأزرق وممزوجة بكتل ترابية مما جعلها هى وعائلتها لم يشربوا الماء من صنبور المنزل منذ عام 2000 فهى مناسبة فقط لغسل المراحيض على حد قولها.
ويشاركها الشكوى كثير من السكان الذين لجأوا إلى جمع مياه الشرب من الينابيع المحلية أو إدخار مياه الأمطار فى أحواض التجديف المطاطية.
أين الحكومة؟ الفقر المستمر ليس بسبب عدم التدخل فقد أنفقت الحكومة الفيدرالية تريليونات الدولارات على مدى السنوات الـ55 الماضية ودعمت كثير من البرامج لكنها ما زالت تركز على مشاكل الماضى بنفس الأسلوب القديم حيث ورث الكبار الفقر والبطالة للأجيال التالية.
وتشير النتائج إلى أن أمريكا تقوم بعمل أسوأ من نظرائها فى مساعدة المحتاجين وفقاً لمقياس الفقر الرسمى الذى يكشف عن وجود 40 مليون أمريكى ضحايا للفقر فى عام 2017، أو 12% من السكان رغم انتقاد البعض للحد الأدنى لدخل الفرد فى الولايات المتحدة.
وبحسب البيانات فإن حوالى 18.5 مليون شخص غارقون فى فقر مدقع ويعتبر الأطفال هم الفئة العمرية الأكثر عرضة للفقر فهناك ما يقرب من 13 مليوناً أو 17.5% من جميع الأطفال الأمريكيين يعانون العوز.
وفى المقارنات الدولية، فإن هذا يجعل أمريكا غريبة بشكل حقيقى عما يعرفه الناس فعند تقييم الفقر وفقاً لبلدان أخرى من حيث نسبة الأسر التى تحقق أقل من 50% من متوسط الدخل القومى بعد الضرائب والتحويلات فهى من بين الأسوأ أداءاً فى نادى منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية الذى يضم معظم الدول الغنية.
وعلى الرغم من ارتفاع مستوى الدخل فإن شبكة الأمان لا تقوم بنفس القدر من العمل كما تفعل فى أى مكان آخر وعلى مقياس الفقر النسبى لا يزال أكثر من 20% من الأطفال الأمريكيين فقراء بعد الحصول على الدعم الحكومى مقارنة بـ3.6% من الأطفال الفنلنديين.
وغالباً ما يؤدى فقر الأطفال إلى فقر البالغين بما يصاحبه من جميع مشكلاته مثل الأمراض النفسية والجريمة وضعف الإنتاجية حيث تقدر دراسة لعدد من الأكاديميات الوطنية للعلوم والهندسة والطب من 600 صفحة حول هذا الموضوع أن فقر الأطفال يكلف أمريكا ما بين 800 مليار دولار و1.1 تريليون دولار سنوياً بسبب ضياع الأرباح وزيادة فرص الإجرام وسوء الصحة.
ويناقش تقرير لمجلة «إيكونوميست» الإجابة على سؤال: كيف يمكن لواحدة من أغنى البلدان فى العالم أن تضم الكثير من الفقراء، وما الذى يمكن فعله حيال ذلك؟.
يأخذ التقرير فى الاعتبار انتقال عدوى الفقر جغرافياً من المدن إلى الضواحى ويدرس التأثير المستمر للعنصرية لكن هناك دور جيد يمكن أن يتطور للأعمال الخيرية ومؤسسات القطاع الخاص.
وبالنسبة لأولئك الذين يستخفون بتريليونات الدولارات التى تنفق على برامج شبكة الأمان كمسعى حسن النية فإن حالة مقاطعة «مارتن» تبدو حكاية تحذيرية واضحة ولمن يشيدون بدورها فكلاهما يمثلان صراع اليمين واليسار فى الحكم الأمريكى.
ويمكن الرجوع تاريخياً لذلك التصريح: «لقد خضنا حرباً على الفقر، وانتصر الفقر»، هذا التصريح للرئيس حينئذ رونالد ريجان جاء فى سياق الصراع السياسى فهو كحزب محافظ جمهورى يرى الفقر كمشكلة لا مفر منها ولابد من التدخل الحكومى والكثير من اليسار يعتبرها بشكل متزايد نتيجة توحش الرأسمالية.
والحقيقة أن التوصيف المتشائم وتبسيط الأزمة غير صحيح تماماً ففى الماضى وحتى الآن لا يلتزم أى طرف بحلول دقيقة وفقاً لمنهج عمله سواء كان تياراً ليبرالياً أو محافظاً.
وشدد اليسار فى الماضى على قدرة الحكومة على تحقيق التغيير مقابل عدم تدخل الدولة اقتناعاً منها للغاية بأن السوق الحرة سوف يجلب تلقائياً الرفاه مما جعل مؤسساتها تقدم القليل من التفكير الإبداعى.
لهذا السبب، أصبحت سياسات الفقر عالقة فأمريكا غارقة فى ممارسة لا تنتهى لفصل الفقراء المستحقين عن غير المستحقين بينما معاملة الفقراء كمسؤولين عن مأزقهم أمر قاس فهم ضحايا للهياكل الاجتماعية والظروف السيئة التى تسلبهم القوة والكرامة.
ويمكن للأشخاص ذوى العقلية المنصفة أن يجدوا أنفسهم فى أى مكان بينهما فتسوية الجدل حول المسئولية أمر مستحيل أيضاً إذا حاولنا إرضاء الأيديولوجيين الأكثر تزمتاً لكان الأفضل الاهتمام بمواجهة مصير شخص مدان بارتكاب جناية عنيفة – وهو اختيار جدير بالثناء – تنتظره سنوات من العقاب لكن طفولته فى حى فقير معزول مع القليل من الدعم من المدرسة أو الأسرة وهى ظروف سيئة الحظ من المحتمل أن تكون قد ساهمت فى هذا المصير.
ويركز النقاش الحزبى على ما إذا كان يجب على البالغين فى سن العمل الذين يتلقون إعانات مالية تلقى المساعدات نقداً، ومع ذلك، فإن هؤلاء البالغين يمثلون أقلية من السكان الفقراء اليوم.
ويوجد عدد قليل منهم يبلغون عن البطالة أو عدم المشاركة الطوعية فى القوى العاملة ولا تمثل الرفاهية النقدية المباشرة للأمهات غير العاملات ساحة معركة للنقاش الدائر فى عهد بيل كلينتون سوى جزء صغير من شبكة الأمان مقارنة بالبرامج العينية مثل قسائم الطعام أو برنامج التأمين الصحى الحكومى للفقراء والمميزات الضريبية التى تزيد من أجور الفقراء العاملين.
وتشير البيانات إلى أن القنوات الرئيسية للنقد المباشر هى مدفوعات العجز والضمان الاجتماعى للمسنين والتى بحكم تعريفها لا تذهب إلى أشخاص يتمتعون بالكفاءة من حيث القدرة على العمل.
ويرى البعض استمرار وجود الفقر والحرمان فى أمريكا كسبب لتقليص شبكة الأمان، معتبرين أنها غير فعالة لكن الفقر مستمر اليوم ليس بسبب فشل الشبكة فالطريقة الصحيحة لتقييم نجاح برامج مكافحة الفقر هى عكسية فليس السؤال ما إذا كان الفقر مازال قائماً، ولكن السؤال إلى أى حد سيكون الوضع أسوأ من دون عمل حكومى.
الإجابة على هذا تزداد صعوبة بالطريقة الغامضة التى تقيس بها أمريكا الفقر حيث يعتمد المستوى الرسمى على الدخل قبل الضريبة متجاهلاً المساعدات من برامج شبكة الأمان والاختلافات فى نفقات المعيشة، مما يجعل التحسينات صعبة التأثير.
وعندما يتم استخدام أداة أفضل لقياس الفقر التكميلى والذى يراعى أوجه القصور هذه يصبح تأثير شبكة الأمان الموسعة واضحاً، ففى عام 1967 خفضت ضرائب شبكة النقل وتحويلات الفقراء وبالكاد تمكنوا من إنقاذ 26.4% من الأمريكيين كانوا فقراء و25% ظلوا فقراء، وفى نظرية الحساب العكسى بدون شبكة أمان ستكون نفس النسبة تقريباً من الأمريكيين 24.6%، فقيرة اليوم كما كانت قبل 50 عاماً.
ولكن بسبب برامج مكافحة الفقر الموسعة إلى حد كبير، مثل قسائم الطعام والائتمان الضريبى على الدخل المكتسب، الذى يزيد من أجور الأمريكيين ذوى الدخول المنخفضة، فإن 13.9% فقط من السكان فقراء بعد خصم الضرائب والتحويلات.
وكان كبار السن فى يوم من الأيام من بين أفقر الفئات ولولا المكافآت النقدية والصحية التى يوفرها الضمان الاجتماعى وبرنامج الرعاية الطبية لظل الأمر كذلك.
ويجسد شرق كنتاكى الطبيعة المتطورة للفقر فى أمريكا منذ إعلان جونسون حربه، مقارنة ببقية البلاد فلا يزال الفقر هناك مرتفعاً لكن من حيث القيمة المطلقة، انخفضت نسبة السكان الفقراء إلى النصف تقريياً منذ عام 1960.
وعندما قام جون كينيدى بحملة للرئاسة فى ولاية فرجينيا الغربية شعر بالرعب ليس من حالة الطرق بل من قبل الناس الذين يعانون الهزال لكن الجوع الدائم أكثر ندرة اليوم ومع ذلك ظهرت أمراض اجتماعية جديدة مثل السمنة والبطالة والإعاقة والإدمان.
كل مشكلة اجتماعية جديدة تتسبب فى مشكلات آخرى ويختلط خطأ الاختيار الفردى بسوء الهيكل الاجتماعى مما يخلق عقدة مزمنة يصعب على صناع السياسة فكها فمثلاً تطور الاقتصاد الوطنى إلى اقتصاد يدعم التعليم تاركاً وراءه العمال ذوى المهارات المنخفضة دون تدريب.
وأصبحت الأسر الفقيرة من جميع الأجناس غير مستقرة على نحو متزايد، ونتيجة لذلك ارتفعت معدلات عدم الزواج والولادات خارج نطاق الزوجية بين هؤلاء السكان ما أدى إلى العديد من الأسر التى تعولها الأم و يعيش 41% من الأطفال فى هذه الأسر تحت خط الفقر، ونما معدل تعاطى المخدرات وخاصة المواد الأفيونية بشكل كبير ما أدى إلى تحطيم الأسر أكثر وأكثر.
وتقول ديبى كروم، التى عاشت طوال حياتها تقريباً فى مقاطعة مارتن: أصبحت أمى فى الثانية والستين من العمر وكان لابن أخى الكبير وصديقته رضيع لكنهم كانوا مدمنين على المخدرات وبدون عمل بسبب عدم اجتياز اختبار المخدرات وصيحفة الحالة الجنائية.
وقضت كروم معظم عمرها فى خدمة المحتاجين لكن ليس جميع الأطفال محظوظين للغاية لتصل إليهم.
وينشر مكتب التحليل الاقتصادى بيانات مفصلة عن مصادر الدخل العامة والخاصة وفى بعض مقاطعات كنتاكى تصل التحويلات الفيدرالية من خلال قسائم الطعام والإعانات واستحقاقات الشيخوخة إلى نسبة 36% من إجمالى الدخل وبدونها، ستكون الأزمات مثل البطالة وإدمان المخدرات أسوأ بكثير، وغالباً ما تكون المستشفيات والمدارس والحكومة المحلية أكبر مزودى الوظائف المستقرة.
ويقدم برنامج Medicaid الذى تم توسيعه فى كنتاكى عبر برنامج «أوباما كير» فى عهد الرئيس السابق باراك أوباما مكافأت مقابل علاج تعاطى المخدرات فى أجزاء من أمريكا الأكثر تضرراً من وباء الأفيونيات.
البروباجاندا تغطى قصور دور المؤسسات الخيرية والقطاع الخاص
يقع حى هارلم فى مانهاتن التى كانت فى وقت ما مرادفاً للفقر والجريمة والفشل بالمناطق الحضرية، وكان المكان الذى عاش فيه الرجال السود عام 1980 عمراً أقل من متوسط العمر المتوقع فى بنجلاديش، لكن أجزاء كبيرة منه تبدو مختلفة اليوم حيث ارتفع متوسط العمر المتوقع وتحسن الحى بشكل كبير على الرغم من أن نسبة كبيرة من الأطفال هناك بنحو %35 مازالوا فقراء، إلا أن فرص حياتهم لاتزال أفضل بكثير من جيل سابق.
هذا ليس جزئياً بسبب الجهود التى تبذلها منظمة «منطقة هارلم للأطفال» وهى مجموعة غير ربحية تبنت 100 منطقة وحددت لنفسها هدف كسر سلسلة الفقر بين الأجيال من خلال تقديم مشورة جيدة عن الأبوة والأمومة الغذاء والتعليم.
ويتعلم أولياء الأمور الجدد الذين يلتحقون بكلية Baby College فى المنطقة عادات التغذية والقراءة المناسبة لأطفالهم ويمكن للأطفال الأكبر سناً حضور رياض الأطفال مجاناً لمدة يوم كامل والبعض الآخر يذهبون للحضور فى شبكة مدارس ابتدائية أسستها المنظمة وتعتبر النتائج الأولية المثيرة للإعجاب نموذجاً وطنياً.
وتخدم المنظمة 14 ألف طفل و14 ألف شخص بالغ بتكلفة فقط 4600 دولار للفرد الواحد فى السنة ويتم جمعها من مزيج من المصادر العامة والخاصة وهذا ليس مبلغاً كبيراً، كما تشير آن ويليامز إيسوم رئيسة المنظمة، مقارنة بإنفاق 167 ألف دولار على سجين فى سجن «ريكارز» مثلاً.وأضافت أنهم يستخدمون الأموال لتوسيع نطاق نشاطهم والأموال مهمة لتكرار كل ذلك فى مناطق أخرى فالحصول على نصف هذا المبلغ الهائل يكفى لخدمة الصف الثالث لتوفير ما يحتاجه الأطفال هم وأسرهم، ويؤكد تقرير مجلة «إيكونوميست”، أن العمل الخيرى بمثل هذا النموذج يكمل الجهود العامة، ويسد الثغرات فى شبكة الأمان الأمريكية.
وأشار إلى أن هناك برنامجين رئيسيين لمكافحة الفقر للأمهات المعيلات الجدد هما برنامج المساعدة التغذوية التكميلية (Snap)، والمعروف باسم بطاقات الطعام للنساء والرضع والأطفال بجانب برنامج ويك (wic) الذى يقدم خدمات عينية لا تغطى تكلفة الحفاضات التى لن تقبل العديد من دور الحضانة رعاية الأطفال الصغار ما لم يوفرها الآباء، كما تقول آن مارى ماتيس، التى تدير المؤسسة الخيرية Twice as Nice Mother & Child التى توزع الحفاضات فى إلينوى.
ويتم سد مثل هذه الفجوات من قبل الجمعيات الخيرية مثل هذه الجميعة التى توزع 350 ألف حفاضة فى السنة ولاتزال هناك حاجة كبيرة إلى بنوك الطعام التى تقدم خدمات كثيرة على غرار توفير ملابس صغيرة كملحق لمخصصات قسائم الطعام التى يبلغ متوسطها 1.40 دولار لكل وجبة.
وفى عام 2017 أظهرت بيانات من المسح السنوى لمكتب الإحصاء حول الأمن الغذائى أن ما لا يقل عن 15.9 مليون أمريكى أبلغوا عن استخدام بنوك الغذاء فى تلك السنة بزيادة قدرها %65 منذ عام 2002 بسبب لجوء الأشخاص ذوى الدخل المنخفض لها وقد يكون الاستخدام الفعلى أعلى من ذلك، وتقدر أكبر شبكة لبنك الطعام فى البلاد وهى Feeding America أنها تساعد 46 مليون شخص على الأقل مرة واحدة فى السنة.
وتستفيد الجهود الخيرية أيضاً من النزعة الأمريكية المثالية، كما لاحظ قبل 200 عام الكاتب الفرنسى ألكسيس دو توكفيل، حيث رأى أشخاص يوفرون الطعام لجيرانهم من خلال جمعيات خيرية خاصة، ومع ذلك لا يمكن للمؤسسة الخيرية وحدها أن تحل محل شبكة أمان عامة.
وفى عام 2018 بلغت قيمة جميع التبرعات الخيرية الأمريكية – وليس فقط لمنظمات مكافحة الفقر – 428 مليار دولار، وهذا ليس مبلغًا صغيرًا، لكنه يضيف ما يصل إلى ثلثى التكلفة الحالية لبرنامج Medicaid وهو برنامج التأمين الصحى للفقراء وبرامج كبيرة أخرى منها الرعاية الصحية والضمان الاجتماعى وائتمان ضريبة الدخل المكتسب وطوابع الغذاء والمساعدة السكنية.
ويمكن القول أن التبذير العام مزاحم للأعمال الخيرية الخاصة، ولكن عند حوالى %2.1 من الناتج المحلى الإجمالى ظل العطاء الخيرى كما هو تقريبًا لمدة 40 عامًا.
وعلى الرغم من أن مشكلة الفقر فى أمريكا تثير خلافات عميقة، إلا أن كل خبير تقريباً فى هذا الموضوع يوافق على أن المخرج المثالى هو العمل المستقر والمستمر ذى الأجور الجيدة وليس الاعتماد الدائم على الدعم العام.
ويمثل البالغين فى سن العمل أغلبية أقل بين الفقراء بسبب التمثيل الزائد للأطفال ومن بين هؤلاء حوالى %20 معاقين جسدياً وتعمل الغالبية بالفعل أو يذهبون إلى المدرسة بدوام كامل، لكن المشكلة هى أنهم يعملون ساعات قليلة جداً أو أن أجورهم منخفضة للغاية، وبالنسبة لهذه المجموعة، فإن البديل هو عدم الحصول على وظيفة، ولكن الحصول على وظيفة سيئة أفضل بالنسبة لهم.
وبالنسبة للعمال ذوى المهارات المتدنية وذوى المؤهلات التعليمية المحدودة حتى فى ظل ظروف سوق العمل الحالية الضيقة تكون فرص التقدم محدودة والمشكلة الأخرى هى أن الأماكن الفقيرة باستمرار لديها القطاع الخاص ضعيف ويفتقر إلى مثل هذه الوظائف ومنها بلدة باين ريدج الرئيسية وهى محمية أمريكية أصلية فى ساوث داكوتا ووفقًا لبعض المقاييس تعتبر هى أفقر مكان فى البلاد وبالكاد يكون القطاع الخاص فيها عبارة عن بضع محطات بنزين فقط، وغالباً ما يتم تمويل الوظائف الجيدة القليلة الموجودة فى القطاع العام سواء فى المكاتب الحكومية المحلية أو فى المدارس أو المستشفيات أو السجون.


ولقد أراد صانعو السياسة منذ فترة طويلة استخدام الدولارات العامة لبدء الاستثمار الخاص فى المناطق الفقيرة، لكن هذا الأمر سجل خيبات أمل من هذه البرامج باستمرار.
ولم تجد معظم تقييمات المتابعة لاستراتيجية «مناطق المؤسسات» التى تم إنشاؤها فى الثمانينيات لتوفير اعتمادات ضريبية للشركات فى المناطق التى تعانى من الفقر الشديد أى نمو فى فرص العمل أو الحد من الفقر، ولكن حدث ارتفاع فى أسعار المنازل.
ويبدو أن استراتيجية «مناطق الفرص» وهى أحدث تكرار لسياسة قائمة على المكان وقعتها إدارة ترامب وفق قانون خاص بها، متجهة إلى مصير مماثل.
ويوجد القليل من الرقابة على المناطق المؤهلة للحصول على حوافز ضريبية وليس هناك خطة لتتبع النتائج بشكل منتظم، ما يعنى أن نتائج جهود مكافحة الفقر من خلال هذه الاستثمارات قد تكون ضئيلة.
ويبدو أن برامج إعادة التدريب الممولة من الحكومة الفيدرالية للعمال المشردين لم تحقق سوى القليل أيضاً على الرغم من أن بعض الاقتصاديين يجادلون بأن ذلك لم يتم تمويله بشكل صحيح، ومن سلبيات البرامج الفيدرالية التى تمول وفق قانون الاستثمار فى القوى العاملة، المطبق فى الفترة من 1998 إلى 2014، والذى أدى فى الواقع إلى تخفيض دخل العمال البالغين النازحين.
وكان لسلفه قانون شراكة التدريب على العمل عوائد ضعيفة بالمثل ومن العجيب أن الإصدار الحالى وهو قانون ابتكار القوى العاملة وفرصها لديه تمويل أقل وهو نفس النموذج الأساسى دون تغيير.
من جهة ثانية تعكس النتائج المختلطة اتجاهاً عاماً فى أبحاث الفقر ومع تقدم الناس فى السن يصبح من الصعب التمييز بين السياسات الأفضل ويصبح أيضاً أكثر تكلفة للإصلاح.
وتعد الجهود الخاصة سواء أكانت إنسانية أو برامج إعادة التدريب أكثر فعالية ومفيدة للغاية عندما تظهر مناهج مبتكرة للحد من الفقر والتى يمكن بعد ذلك دعمها بأموال الحكومة ويمكن أن يساعد هذا فى تجنب مشكلة واحدة من الاعتماد على الأعمال الخيرية وحدها فالمؤسسات الجيدة تركز على محنة المدن فقط وليس حتى المدن الصغيرة.

خطة الأظافر الناعمة .. الأطفال حائط صد لـ«توريث الفقر عبر الأجيال»
كأمريكى فقير، من السهل الشعور بالتجاهل.. ويقول الفقراء، إنهم منسيون ولأنهم فقراء، يعتقد الناس أنهم غير مهمين فمجرد الحصول على المياه النظيفة فى شرق ولاية كنتاكى يتطلب جهداً هائلاً، وفى شيكاغو أصبحت روزازيليا جريلير ناشطة فى مؤسسة cofi، وهى مجموعة مجتمعية تقوم بحملة لإصلاح المدارس بعد أن كانت تعيش فى منطقة فقيرة، لكن كان لديها القليل من الأمل.
وسعت جريلير إلى توفير مستقبل أفضل لأطفالها الصغار، ولكن مع قليل من الدخل ومرض السرطان يكون الأمر صعب أو أقرب للمستحيل مما أفقدها الأمل حرفياً فى أى شىء فمهما كانت جرعات الأمل، فإنها ليست فى مأمن من نوبات اليأس الزاحفة التى يجلبها الفقر وهو بعد نفسى للمعاناة لا تظهره الإحصاءات الرسمية الرقمية.
ويتطلب حظر انتقال الفقر بين الأجيال برنامجاً للسياسة العامة الجادة يقوم فى الأساس على اهتمام الجمهور نفسه وهذا غير موجود فى الوقت الحاضر بأمريكا ويرجع ذلك جزئياً ليس لأن الفقراء لا يصوتون، لكن بسبب أن نقاش الساسة المنتخبين يدور فى محاولة عقيمة لفصل الفقراء المستحقين عن غير المستحقين، ووفقاً لدراسات الانتخابات الوطنية الأمريكية يشعر الناخبون من جميع الطبقات باهتمام بحالة «الفقراء» أكثر من الأشخاص الذين يعيشون فى رفاهية.
لكن عواقب التقاعس واضحة، فالفقر للأسف، هو حالة وراثية وبالنسبة للبعض، مثل المنحدرين من السود من زمن الرق فى الجنوب الأمريكى والمناطق الموجودة فى المدن الداخلية المعزولة قسراً، وينطبق الشىء نفسه على الأمريكيين الأصليين، أما الآخرون، مثل الأصول الإسبانية والبيض الريفيين الذين هاجروا مؤخراً، فقد ذهبوا أدراج النسيان لأن الاقتصاد يكافئ مستويات التعليم والمجموعات العالية فى المدن.


وفى ضوء هذه الاتجاهات، من المحتمل أن يصبح الأطفال الفقراء من كل عرق الجيل القادم من أبناء البالغين الفقراء حالياً وسيدوم العار الوطنى لمثل هذه العقوبات للمجتمع.
وهذا ليس مجرد خطأ من الحكومة الفيدرالية وعدم رغبة المحافظين فى الاعتقاد بأن تدخل الحكومة يمكن أن يساعد بل إن القوة الدافعة وراء الفصل فى الدخل وتفاقم تركيز الفقر هى ارتفاع أسعار المنازل، التى تدفع الفقراء إلى العيش معاً فى بؤر وتركز المعوزين فى الضواحى والمدن الصغيرة الأقل استعداداً للتعامل معهم.
وتصبح المشكلة أكثر حدة فى المدن الأمريكية الأكثر ازدهاراً، والتى يحكمها ليبراليون غير خائفين من نتائج التصويت رغم سوء المعروض من المساكن بسبب السيطرة المحلية على تقسيم المناطق، ويمكن أن يستهلك الإيجار ما يصل إلى نصف دخل أفقر السكان، والمساعدات السكنية التى قد تخفف من بعض هذه الاتجاهات تعانى من نقص فى التمويل بالنسبة للطلب عليها.
وتؤدى المنافسة إلى زيادة الإيجارات، خاصة حول مناطق تواجد المدارس الجيدة وتعتبر ظاهرة المتشردين أكثر أشكال الفقر تطرفاً هى أحد الأعراض التى ترتفع فى المدن الباهظة التكلفة.
وفى عام 2018، قدرت نيويورك عدد سكانها المشردين بأكثر من 79 ألف نسمة بزيادة %48 عن عام 2010 رغم أنها تنفق 3.2 مليار دولار على خدمات المشردين كل عام فيما هناك واحداً من بين كل 4 أمريكيين بلا مأوى فى كاليفورنيا الآن.
والمطلوب هو الاعتراف بأن برامج مكافحة الفقر قد ساعدت الفقراء بالفعل وكما هو مقصود هى نقطة تحجبها مناقشات أوجه القصور فى الحساب الرسمى للفقر، لكن فاعلية أكبر للحرب الجديدة على الفقر قد تتحقق إذا ركزت على الأطفال، وهى مسالة مرتبطة بالتحليل للتكلفة والعائد البسيط فالتدخل المبكر يعزز الأرباح وبالتالى الإيرادات الضريبية ويقلل من الإنفاق على السجون وبرامج مكافحة الفقر.
وأظهرت الأبحاث التى أجراها ناثانيل هندرين وبن سبرونج كيسر من جامعة هارفارد، التى تقيم عائد الاستثمار العام فى مختلف الخطط الحكومية أن فوائد البرامج التى تستهدف الأطفال الفقراء تحقق عائدات أعلى بكثير من تلك التى تستهدف البالغين الفقراء، كما أن التدابير البسيطة مثل الإعانة النقدية الشاملة للأطفال وتمكين الأسر الفقيرة من الحصول إلى فرص فى أماكن أفضل ستكون أهدافاً وطنية غير مكلفة نسبياً.

لمتابعة أخر الأخبار والتحليلات من إيكونومي بلس عبر واتس اب اضغط هنا

الأكثر مشاهدة

النفط يصل لأعلى مستوياته منذ شهر وسط توقعات بارتفاع الطلب

استقرت أسعار النفط اليوم الخميس لتقترب من أعلى مستوى في...

الحكومة تقترب من إعداد الخطة الاستراتيجية الاستثمارية للدولة

اقتربت وزارة الاستثمار والتجارة الخارجية من الانتهاء من صياغة الخطة...

منطقة إعلانية