ملفات

لماذا يواصل الاقتصاد الروسى تجاوز التوقعات؟

بوتين

عادةً ما يتسم الاقتصاد الروسى بالشفافية حتى فى الأوقات العادية، لكن الأوقات الحالية ليست عادية على الإطلاق.

فمنذ الغزو الروسى لأوكرانيا، توقف البنك المركزى الروسى واللجنة الحكومية للإحصاء عن نشر بيانات تتعلق بأى شيء، بداية من التجارة وحتى الاستثمار، بينما يشكك الكثيرون فى مصداقية تلك الأرقام التى ما زالت تُعلن.

ولم تعد البنوك الاستثمارية تقدم المشورة للعملاء بشأن الشركات الروسية، فقد قلصت جهودها البحثية، كما سحبت المنظمات متعددة الأطراف اقتصادييها من البلاد، حسبما ذكرت مجلة «ذا إيكونوميست» البريطانية.

اندلع نقاش حاد بشأن أداء الاقتصاد الروسى، إذ تقول ورقة بحثية حديثة أعدها خمسة باحثين فى جامعة ييل إن انسحاب الشركات الغربية، بجانب العقوبات، يشل الاقتصاد، وإن أى قوة اقتصادية ظاهرة هى مجرد سراب.

بعد غزو روسيا لأوكرانيا، دخل اقتصاد البلاد فى سقوط حر، حيث فقد الروبل أكثر من ربع قيمته مقابل الدولار الأمريكى، وانهار سوق الأوراق المالية، ما أجبر الجهات التنظيمية على تعليق التداول.

كذلك، انسحبت مئات الشركات الغربية من روسيا، أو تعهدت بذلك، بعد أن فرضت حكوماتها عقوبات.

وفى غضون شهر، عدل المحللون توقعاتهم للناتج المحلى الإجمالى الروسى فى عام 2022 من نمواً نسبته %2.5 إلى انخفاض يقترب من %10.

وكان البعض أكثر كآبة، إذ أفاد البيت الأبيض أن «خبراء الاقتصاد يتوقعون انكماش الناتج المحلى الإجمالى لروسيا بنسبة تصل إلى %15 خلال العام الحالى، ما يقضى على 15 عاماً من المكاسب الاقتصادية».

يتفق كلا طرفى النقاش على أن البلاد ما زالت متضررة، فقد دفعت الزيادات الهائلة فى أسعار الفائدة فى الربيع، والمصممة لتحقيق الاستقرار فى الروبل المنهار، بجانب انسحاب الشركات الأجنبية، الاقتصاد إلى الركود.

وتشير الأرقام الرسمية إلى أن الناتج المحلى الإجمالى للربع الثانى انخفض بنسبة %4 على أساس سنوى.
كذلك، فإن العديد من المدن الـ300 ذات الصناعة الواحدة فى البلاد والتى تضررت من العقوبات تعيش فى كساد شامل، وهرب الكثيرين، خاصة المتعلمين، بينما نقل آخرون أصولهم لخارج البلاد.

فى الربع الأول من عام 2022،وطبقا لأحدث البيانات المتاحة، سحب الأجانب ما قيمته 15 مليار دولار من الاستثمار المباشر، وهو أسوأ رقم على الإطلاق.

أما فى مايو الماضى، كانت التحويلات الروسية إلى جورجيا أعلى 10 مرات من حيث القيمة الدولارية مقارنة بالعام السابق.

مع ذلك، يشير تحليل «ذا إيكونوميست» للبيانات الصادرة عن مجموعة متنوعة من المصادر إلى أن اقتصاد روسيا يعمل بشكل أفضل حتى من التوقعات الأكثر تفاؤلاً، حيث عززت مبيعات الهيدروكربونات فائضاً قياسياً فى الحساب الجارى.

يمكن النظر على سبيل المثال إلى «مؤشر النشاط الحالى» الذى نشره بنك «جولدمان ساكس»، وهو مقياس فى الوقت الفعلى للنمو الاقتصادى، إذ انخفض هذا المقياس بشكل كبير فى مارس وأبريل، إن لم يكن على نطاق مماثل للأزمة المالية العالمية فى 2008 أو حتى غزو أوكرانيا فى عام 2014، لكنه تعافى فى الأشهر اللاحقة.

تروى التدابير الأخرى قصة مماثلة عن ركود، لكنه لم يكن ركوداً عميقاً، على الأقل بالمعايير المتقلبة لروسيا.
فى يونيو، انخفض الإنتاج الصناعى بنسبة %1.8 عن العام السابق، وفقاً لورقة نشرها بنك «جيه.بى مورجان تشيس».
كما يُظهر مؤشر نمو قطاع الخدمات، المجمع عبر إرسال استبيانات إلى المديرين، تأثراً أقل مما كان عليه خلال الأزمات السابقة، ويبدو أن استهلاك الكهرباء ينمو مرة أخرى بعد انخفاض أولى.
فى غضون ذلك، يتراجع التضخم، حيث نمت أسعار المستهلك بنحو %10 منذ بداية عام 2022 وحتى نهاية مايو، وتسبب انخفاض الروبل فى زيادة قيمة الواردات، كما تراجع المعروض بسبب انسحاب الشركات الغربية، لكن الأسعار تنخفض الآن.
والآن، تسبب ارتفاع الروبل فى خفض تكلفة الواردات، كما انخفضت توقعات التضخم لدى الروس.
وتظهر مجموعة بيانات صادرة عن بنك الاحتياطى الفيدرالى فى كليفلاند وشركة «مورنينج كونسلت» والباحث بجامعة برانديز رافائيل شونلى، أن التضخم المتوقع خلال العام المقبل قد انخفض من %17.6 فى مارس إلى %11 فى يوليو.
وفى ظل وفرة الغاز، لن تشهد روسيا على الأرجح ارتفاعاً مماثلاً للنمط الأوروبى فى التضخم الناتج عن ارتفاع أسعار الطاقة.
هناك ثلاثة عوامل تفسر سبب استمرار روسيا فى تجاوز التوقعات.
يتعلق الأول بالسياسة، حيث لا يفهم الرئيس فلاديمير بوتين الاقتصاد كثيراً، لكنه سعيد بتفويض الإدارة الاقتصادية لمن يفعلون ذلك، إذ يحتوى البنك المركزى الروسى على موظفين مؤهلين تأهيلاً عالياً الذين اتخذوا إجراءات سريعة لمنع الانهيار الاقتصادى، فقد ساعدت مضاعفة أسعار الفائدة فى فبراير، بجانب ضوابط رأس المال، إلى دعم الروبل، فى خفض التضخم.
العامل الثانى يتعلق بالتاريخ الاقتصادى الحديث، فهذه الأزمة الاقتصادية هى خامس أزمة تواجهها البلاد منذ 25 عاماً، بعد أعوام 1998 و2008 و2014 و2020، فأى شخص يزيد عمره عن 40 عاماً لديه ذكريات متعلقة باضطرابات اقتصادية غير عادية أحدثها سقوط الاتحاد السوفيتى، بالتالى تعلم الناس التكيف بدلاً من الذعر أو التمرد.
لطالما كانت أجزاء من الاقتصاد الروسى منفصلة إلى حد ما عن الغرب، وهذا يأتى على حساب انخفاض النمو، لكنه جعل الزيادة الأخيرة فى العزلة أقل إيلاماً.
فى عام 2019، بلغ رصيد الاستثمار الأجنبى المباشر فى البلاد حوالى %30 من الناتج المحلى الإجمالى، مقارنة بالمتوسط العالمى البالغ %49.
وقبل غزو أوكرانيا، كان حوالى %0.3 فقط من الروس الذين لديهم وظيفة يعملون فى شركة أمريكية، مقارنة بأكثر من %2 فى جميع أنحاء العالم الغنى.
تتطلب البلاد عددًا قليلاً من الإمدادات الأجنبية نسبياً من المواد الخام، بالتالى فإن العزلة الإضافية لم يكن لها تأثير كبير على الأرقام حتى الآن.
بالنسبة للعامل الثالث، فهو يتعلق بالهيدروكربونات، اء كان للعقوبات تأثير محدود على إنتاج البترول الروسى، وباعت روسيا فى المنطقة ما قيمته 85 مليار دولار من الوقود الأحفورى إلى الاتحاد الأوروبى منذ بداية الغزو.
وحتى يأتى الوقت الذى يترك فيه بوتين منصبه، سيحجم المستثمرون الغربيون عن لمس روسيا، وستستمر العقوبات.
ومن هذا المنطلق، يقر البنك المركزى الروسى بأن روسيا لا تعتمد كثيراً على المواد الأجنبية، لكنها فى أمس الحاجة إلى الآلات الأجنبية.
وبمرور الوقت، ستؤثر العقوبات سلباً على البلاد، وستنتج روسيا سلع ذات جودة أسوأ بتكلفة أعلى، لكن اقتصادها يتعثر فى الوقت الحالى.

لمتابعة أخر الأخبار والتحليلات من إيكونومي بلس عبر واتس اب اضغط هنا

الأكثر مشاهدة

النفط يصل لأعلى مستوياته منذ شهر وسط توقعات بارتفاع الطلب

استقرت أسعار النفط اليوم الخميس لتقترب من أعلى مستوى في...

الحكومة تقترب من إعداد الخطة الاستراتيجية الاستثمارية للدولة

اقتربت وزارة الاستثمار والتجارة الخارجية من الانتهاء من صياغة الخطة...

منطقة إعلانية