مقالات

بريطانيا.. هل ستعترف بتدهورها الاقتصادي؟

التغيير صعب، وربما أكثر ما يحتاجه هو الصدق. فلسبب وجيه، يشتمل برنامج «مدمنون مجهولون» المؤلف من 12 خطوة، على «إجراء مراجعة أخلاقية دقيقة وجريئة لأنفسنا». فكيف نأمل أن نعرف أين نتجه إذا لم نكن مستعدين لاستيعاب واقعنا الحالى والاعتراف به؟

لذا ربما أن التحدى الأكبر الذى يعترض معالجة بريطانيا تدهورها الاقتصادى نسبياً هو الاعتراف بأنه يتدهور أصلاً.

أدت المؤسسة البحثية «ذا ريزولوشن فاونديشن»، فى لندن، خدمة للقضية هذا الشهر بأن قدمت شرحاً بالأرقام وبالنسب المئوية تناول مدى التراجع الذى تعيشه البلاد.

ينظر كثير من البريطانيين إلى فرنسا وألمانيا، على أنهما دولتان نظيرتان، ربما تبليان أفضل قليلاً فى بعض المناسبات، لكنهما تنتميان إلى المستوى نفسه كبريطانيا بشكل عام.

لذا لا شك أنهم شعروا بالصدمة لاكتشافهم حجم الفجوة بين بلدهم وهاتان الدولتان.

فالأسر ذات الدخل المتوسط فى بريطانيا أفقر بنسبة %20 مقارنة بالأسر فى ألمانيا، وبنسبة %9 مقارنةً بالأسر فى فرنسا.

والوضع أسوأ بالنسبة للأسر منخفضة الدخل، التى تبين أنها أفقر بواقع %27 مقارنة بنظيراتها من الأسر فى الدولتين.

مشكلة انخفاض الإنتاجية فى بريطانيا بالمقارنة مع مجموعة أوسع من الدول، تشمل أستراليا وكندا وألمانيا وهولندا، تبدو بريطانيا أفقر بمعدل %16 (تشكل الولايات المتحدة فئة خاصة بحد ذاتها بما أنها أغنى كثيرًا).

وحتى تغلق بريطانيا الفجوة فى متوسط الدخل وفى عدم المساواة مقارنة مع هذه الدول، ينبغى أن يرتفع دخل الأسرة العادية بـ8300 جنيه إسترلينى (10400 دولار)، ودخل الأشخاص الأكثر فقراً بنسبة %37.

فمستوى معيشة الأسر البريطانية الأفقر هو دون مستوى معيشة الفئة عينها من الفرنسيين بـ4300 جنيه إسترلينى، وهذه أرقام صادمة جداً.

استُخلصت هذه الأرقام إلى جانب مجموعة من الإحصائيات الأخرى من دراسة «إنهاء الجود الاقتصادى» المؤلفة من 291 صفحة وتشكل التقرير النهائى من المشروع التحقيقى «اقتصاد 2030» الذى أجرته مؤسسة «ريزولوشن فاونديشن» طوال سنتين لتبيان طبيعة المحاولات الجادة لوقف التدهور النسبى لبريطانيا.

تعليقاً على ذلك، قالت لى إيميلى فراى، الاقتصادية فى المؤسسة والتى شاركت فى إعداد التقرير إن تراجع بريطانيا بعض الشيء مقارنة مع الدول الأخرى كان متوقعاً، غير أن حجم هذه الفجوة كان صادماً.

أرجع الباحثون ذلك بشكل رئيس إلى انخفاض الإنتاجية، فمستوى كفاءة الاقتصاد فى المزج بين العمل ورأس المال ليحولهما إلى إنتاج يمثل الركيزة الأساسية لرفع الأجور ومستوى المعيشة، وهذا الأمر على صلة وثيقة بمشكلة بريطانيا المزدوجة الناجمة عن نمو اقتصادى دون المستوى وتفاقم انعدام المساواة.
فى تسعينيات القرن الماضى والعقد الأول من الألفية الثالثة، كانت بريطانيا قادرة على اللحاق بركب الدول الأعلى إنتاجية مثل فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة، إلا أنها توقفت عن ذلك فى منتصف العقد الأول من الألفية، وهى فى مسار انحدارى منذ ذلك الحين.
فقد ارتفع مستوى الإنتاجية فى بريطانيا بنسبة %0.4 على أساس سنوى خلال الأعوام الـ12 الماضية بعد الأزمة المالية العالمية، وهو نصف معدل الدول الـ25 الأغنى فى منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية.
معاناة الطبقتين الوسطى والأدنى
تتناول دراسة «إنهاء الجود الاقتصادى» مجموعة واسعة من المسائل والتحديات على صعيد السياسات، منها استمرار انخفاض الاستثمارات وتقلباتها فى المملكة المتحدة والتفاوتات المناطقية وتراجع أداء المدن خارج لندن والأنظمة الضريبية والمالية غير الفعالة، وعدم كفاية بناء المساكن والإصلاحات التخطيطية ولا مركزية السلطة والتجارة فى مرحلة ما بعد الخروج من الاتحاد الأوروبى (بريكست) والانتقال نحو تصفير الانبعاثات الكربونية.
معظم هذه الأمور ليست بجديدة، فهى محط جدل منذ سنوات، بالتالى كان من اللافت أن يحضر وزير الخزانة جيرمى هنت وليس فقط زعيم المعارضة كير ستارمر فى المؤتمر الذى استمر يوماً كاملاً الاثنين الماضى لإطلاق التقرير.
يعنى ذلك أن ثمة إقرار من الحزبين بأهمية التحديات التى طرحها البحث الذى أجرته المؤسسة.
هذا أمر لا يستهان به، فجزء من صعوبة إقناع البريطانيين أن بلادهم وصلت إلى مفترق طرق دقيق يتطلب تغييراً جوهرياً يكمن فى عدم انسجام ذلك مع التجربة المعاشة بالنسبة لكثير من أصحاب الثروة والسلطة.
فالأسر الأغنى هى على مستوى متقارب مع نظرائها الأوروبيين، ولكن الفجوة تتسع على مستوى الطبقتين الوسطى والأدنى.
وأشار التقرير إلى أن تجربة الركود أقل قسوة فى أعلى الهرم الاجتماعى منها فى الطبقتين المتوسطة أو الدنيا.
نقطة القوة: قطاع الخدمات
يطرح الجمود تحدياً إذن، وكذلك انتظار المعجزات، فبريطانيا لن تعيد ابتكار نفسها كقوة صناعية مثل ألمانيا، ولن يمهد خروجها من الاتحاد الأوروبى طريقاً ذهبياً كى تصبح أرض ميعاد عالمية.
على العكس، أصبح الاقتصاد البريطانى أقل انفتاحاً على التجارة (قياساً على الصادرات والواردات كنسبة من الناتج الإجمالى المحلي) منذ الخروج من الاتحاد الأوروبى.
كما فاقم هذا الخروج تحديات الإنتاجية فى بعض النواحى، إذ عرقل سلسلة إمداد تجارة المركبات الأوروبية شديدة التكامل وذات القيمة العالية، فيما زاد صناعة المواد الغذائية المحلية منخفضة الإنتاجية.
لكن الأمور ليست كلها سيئة، إذ تمتلك بريطانيا بعض نقاط القوة بالأخص فى قطاع الخدمات.
فالبلاد هى ثانى أكبر مصدر للخدمات فى العالم بعد الولايات المتحدة، إذ تتخطى ركائز نمو هذا القطاع الخدمات المالية فقط التى انخفضت حصتها من الصادرات إلى %9 فى العام الماضى مقارنةً بـ%12 فى 2022، بحيث تمتلك بريطانيا موسيقيين ومهندسين معماريين ومحامين ناجحين، ولا بد أن تركز سياساتها التجارية على ذلك، أى على إبرام اتفاقيات تجارية خدماتية مع دول ذات دخل مرتفع مثل سنغافورة وأستراليا واليابان، بدل مطاردة الأوهام.
إقبال الملايين من الأشخاص على بنوك الطعام، ومرور 15 سنة دون أى زيادة فى الأجور يفترض أن تكون إشارات كافية إلى ضرورة إحداث تغيير، مع ذلك تسهم دراسة «إنهاء الركود» فى تسليط الضوء أكثر على ما يجرى.
فهل بريطانيا جاهزة لإجراء هذا الحوار؟

بقلم: ماثيو بروكر، كاتب مقالات رأى لدى وكالة أنباء «بلومبرج»
المصدر: وكالة أنباء «بلومبرج»

لمتابعة أخر الأخبار والتحليلات من إيكونومي بلس عبر واتس اب اضغط هنا

الأكثر مشاهدة

النفط يصل لأعلى مستوياته منذ شهر وسط توقعات بارتفاع الطلب

استقرت أسعار النفط اليوم الخميس لتقترب من أعلى مستوى في...

صندوق النقد: مستمرون في دعم مصر ولم نحدد موعد المراجعة المقبلة

أكدت المتحدثة باسم صندوق النقد الدولي، جولي كوزاك، خلال مؤتمر...

منطقة إعلانية